Quantcast
Channel: كتب (جريدة الشرق الاوسط)
Viewing all 155 articles
Browse latest View live

لورنس العرب.. هل نعرفه حقا؟ لورنس العرب.. هل نعرفه حقا؟

0
0
تمثل قصة توماس إدوارد لورنس - الشهير بلورنس العرب - لأولئك الذين يقرأون التاريخ من زاوية واحدة، قمة البساطة في سرد أحداث منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. تقول تلك القصة البسيطة: أرسل البريطانيون واحدا من جواسيسهم يُدعى توماس إدوارد لورنس في مهمة تحريض العرب ليثوروا ضد العثمانيين، وهكذا استطاعوا إحكام سيطرتهم على منطقة الشرق الأوسط، ثم شرعوا بعد ذلك في تقسيمها إلى دويلات صغيرة من خلال صفقة مع الفرنسيين تُعرف في التاريخ باتفاقية سايكس - بيكو. وعلى هامش الأحداث الرئيسة خلال تلك الفترة، أصدر البريطانيون وعد بلفور، الذي أعطى فلسطين لليهود، الذين أقاموا إسرائيل فيما بعد. أما النقطة الأهم في تلك القصة فتتعلق بفهم الشخصية الرئيسة في تلك القصة، أي توماس إدوارد لورنس. وإذا كنت تعتقد أنك استطعت استقاء كل المعلومات التي أردتها عن «لورنس العرب» من خلال مشاهدة الفيلم الشهير الذي قدمه للسينما العالمية المخرج البريطاني العالمي ديفيد لين عام 1962، فينبغي عليك أن تعيد التفكير مرة أخرى. ويأتي الكتاب الثري الجديد، الذي ألفه سكوت أندرسون، ليعيد رواية القصة بطريقة تتحدى كثيرا من الجوانب المتعلقة بأسطورة لورنس. باختصار، الأسطورة تحكي قصة شاب إنجليزي غريب الأطوار حط رحاله في منطقة الشام - التي كانت تقع تحت سيطرة العثمانيين - خلال الحرب العالمية الأولى ونجح في قيادة العرب خلال ثورتهم التي ساعدت في إخراج الباب العالي من اللعبة، ومحققا بذلك النصر لقوات الحلفاء. على مدار القرن الماضي، جرى استخدام أسطورة لورنس لأغراض متناقضة، إذ إن البعض استخدمها للتأكيد على شغف الإنجليز المفترض بالأعمال البطولية. بينما استخدمها آخرون لتقديم مثال على الخداع، الذي مارسته بريطانيا الاستعمارية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالغدر بالأصدقاء وتوجيه طعنة لهم من الخلف. لكن أندرسون يبدأ كتابه بمعارضة كلتا وجهتي النظر عندما يضع العنوان «لورنس في جزيرة العرب» وليس «لورنس العرب»، وهكذا يضع البطل الأسطوري في السياق الصحيح. صياغة عنوان الكتاب بتلك الطريقة لا تمثل مجرد تغيير لفظي. ولا يبدو شيئا مبالغا فيه إذا ما تساءلنا عن إمكانية إضافة لقب «العرب» إلى اسم لورنس. صحيح أن المغامر الشاب كان يُجيد القليل من اللغة العربية، رغم عدم توفر معلومات مؤكدة عن حجم ما كان يعرف بالضبط، وصحيح أيضا أنه قرأ بعض الكتب عن العرب وأنه اشترك في بعض بعثات التنقيب عن الآثار، التي جرى معظمها فيما يُعرف الآن بتركيا، إلا أن ذلك كله - رغم ذلك - ليس له صلة مباشرة بالعرب. ويستخدم أندرسون في كتابه أسلوب اللقطات العريضة البانورامية بدلا من اللقطات القريبة، حيث يساعد هذا الأسلوب القارئ على تذوق العناصر التاريخية والثقافية للمشهد في الوقت الذي يُبقى فيه الضوء منصبا على لورنس حيثما تقتضي الضرورة. لكن إصرار أندرسون على وصف المشهد بخلفياته التاريخية والثقافية يصبح مملا في بعض المناسبات. على سبيل المثال، يصف أندرسون نوع الحجر المستخدم في تشييد هذا المبنى أو ذاك، كما يصف بشيء من التفصيل شكل شارب هذا الضابط أو كيف يبدو ذاك القائد العسكري الرياضي. وعلى الرغم من ذلك، يخلق التأثير المتراكم لذلك الوصف جوا رائعا من الواقعية. ثم بعد ذلك، يبدأ أندرسون في خلق مجموعة من الشخصيات «المساعدة» التي تساعد في دفع الأحداث باتجاه لحظة حل العقدة الدرامية. وقد استطاعت تلك الشخصيات سرقة جزء من الأضواء، مثل: كيرت بروفر «لورنس الألماني» وويليام ييل، رجل النفط الأميركي والجاسوس، بالإضافة إلى العسكري الصهيوني آرون آرونسون، أو أمراء الحرب من البدو مثل عودة أبو تايه، الذين علقوا بالذاكرة التاريخية كشخصيات درامية وبطولية. ثم يبدأ أندرسون بعد ذلك في تحليل عناصر أسطورة لورنس من عدة زوايا أخرى. ويعرض أندرسون فكرة أن الثورة العربية لم تكن من اختراع لورنس. في الحقيقة، قبل اندلاع الحرب وقبل وصول لورنس إلى الشرق الأوسط في مهمة مساعد عالم آثار، كان عبد الله - أحد أبناء الشريف حسين بن علي، شريف مكة المكرمة - هو أول من أثار فكرة إشعال ثورة عربية ضد العثمانيين خلال لقاءاته مع الجنرال كتشنر، الحاكم البريطاني الفعلي لمصر، في القاهرة. وقد صرف كتشنر النظر على تلك الفكرة، لكنه - على ما يبدو - ترك الباب مفتوحا أمام جميع الخيارات، واضعا الشريف حسين على قائمة خياراته المستقبلية. كما سعت الكثير من الحركات القومية العربية، مثل الجمعية العربية الفتاة وجمعية العهد، لطلب الدعم من القوى الغربية، خاصة بريطانيا، للوقوف بجانبهم في كفاحهم ضد العثمانيين. وعليه، لم يكن الأمر مجرد «قوة استعمارية» تحاول جاهدة توسيع مساحة مستعمراتها من خلال استغلال حركات التحرر في المنطقة العربية، بل كانت حركات عربية تسعى لاستخدام «قوة استعمارية» بعيدة للتخلص من «قوة استعمارية» أخرى قريبة سامت العرب صنوف القهر والظلم. وقد شاعت فكرة «الجهاد» الإسلامي ضد «الكفار» خلال الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى. وحاول الألمان استغلال تلك الفكرة ضد الإمبراطورية البريطانية، التي كانت تحتل في ذلك الوقت أكثر من نصف العالم الإسلامي. وبالتالي، سيؤدي استغلال تلك الفكرة بالطريقة الصحيحة إلى تكوين أكبر «قوة إسلامية.» وقد ألهمت هذه الفكرة - استخدام القوى الاستعمارية الأوروبية للمسلمين كسلاح لتحقيق مآربهم - الروائي جون بوكان، فكتب رواية «العباءة الخضراء»، وصدرت قبل عام من بدء لورنس تسويق فكرة «الثورة العربية». وعلى النقيض، يبدو لورنس في الغالب شخصية محيرة، حيث كان السبب وراء زيادة الأمر تعقيدا عندما صب اهتمامه على إحياء فكرة القومية العربية كأساس آيديولوجي للثورة ضد العثمانيين. وبالإضافة إلى ذلك، ارتكب لورنس خطأ آخر عندما ساوى مصالح «العرب» جميعا بمصالح «عائلة الشريف حسين». وبعد ذلك بسنوات عدة، اعترف لورنس بأن مفهوم «الأمة العربية» كان «مجرد سراب». وعلى الرغم من عبقريته في تجهيز وإخراج بيئة الأحداث، بما في ذلك ارتداؤه الأزياء العربية، كان اتصال لورنس بالعرب ضعيفا وقليلا. فباستثناء الفترة التي قضاها في العمل كعالم آثار في قرية كركميش - قرية آشورية - حيث التقى بعلي سالم «حب حياته»، قضى لورنس القليل من الوقت في المدن العربية باستثناء القاهرة التي عاش فيها في الفنادق الفاخرة. وكانت «المنطقة العربية» بالنسبة للورنس ما هي إلا مساحة صغيرة من الأرض تسمى تهامة (السهل الساحلي على البحر الأحمر الذي يقع غرب شبه الجزيرة العربية بين أقاليم الحجاز واليمن التاريخية) حيث زار جدة، وقام بزيارات أخرى لعدد من الموانئ الصغيرة على البحر الأحمر، في عدد من المناسبات، لكن تلك الزيارات لم تكن تتعدى أيام قليلة. كان لورنس قادرا على استغلال مهاراته في القيام بأعمال الخداع البسيطة، إذ كان الحاكم العثماني، جمال باشا - المعروف لدى العرب بـ«السفاح» - مترددا في استخدام قبضته الحديدية بطريقة فعالة. وقد خصص جمال باشا جائرة لمن يستطيع القبض على لورنس، لكن لم يفعل أي شيء لاعتقاله. وعندما أُلقي القبض بالصدفة على لورنس في درعا، لم يكلف أحد نفسه التحقق من هويته، ثم أُطلق سراحه بعد ساعات قليلة من اعتقاله، وزعم أنه جرى الاعتداء عليه جنسيا من قبل الحاكم المحلي التركي. وخلال أربع مواجهات فقط، كانت هناك اشتباكات فعلية بين «الجيش العربي» - تحت قيادة لورنس - والأتراك، وقد أسفرت تلك المواجهات عن نتائج مختلفة. وفي نهاية الأمر، تلقى العثمانيون الهزيمة على يد الجيش البريطاني النظامي خلال عملية عسكرية تحت قيادة الجنرال أللنبي. في بعض المناسبات، يكرر أندرسون الأكليشيهات التي كانت شائعة في منطقة الشرق الأوسط في ذلك الوقت، ومثال ذلك، كرهه الشديد للسير مارك سايكس، السياسي البريطاني الذي قاد المفاوضات التي تمخضت عن توقيع اتفاقية سايكس - بيكو سيئة السمعة مع فرنسا وروسيا. لم يعرف سايكس، الذي كان يقضي وقت فراغه في رسم الصور الكاريكاتيرية، أنه سينتهي به الأمر إلى رسم خريطة بريطانيا «الاستعمارية». وعلى الرغم مما يبدو من ميل أندرسون لاستخدام قلمه في توجيه طعنات لسايكس، فإنه يقول إن اتفاقية سايكس - بيكو لم توضع موضع التنفيذ أبدا. وعندما استولى البلاشفة على السلطة في روسيا في عام 1917، أصدر ليف تروتسكي، مؤسس الجيش الأحمر، النص السري للاتفاقية للتنديد بـ«المؤامرات الاستعمارية». ويوضح أندرسون أن سايكس أعتقد أن العرب سيحسنون صنعا بتقبل الحكم الاستعماري لفترة من الزمن. وكان سايكس قد كتب: «عشرة أعوام تحت حكم بريطانيا وفرنسا وسيصبح العرب أمة موحدة. أما الاستقلال الآن فيعني الوقوع تحت السيطرة الكاملة لبلاد فارس، والفقر والفوضى». في نهاية الأمر، لم تتبن بريطانيا ولا فرنسا اتفاقية سايكس - بيكو، حيث جرى تقرير مصير الأقاليم العربية، التي كانت تخضع لسلطان الإمبراطورية العثمانية، خلال حديث دار بين رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد لويد جورج، ونظيره الفرنسي، جورج كليمانصو، عام 1918 أثناء نزهة على الأقدام، لم تستغرق سوى عشر دقائق. قال رئيس الوزراء البريطاني لنظيره الفرنسي «أنتم تحتفظون بسوريا، ونحن نفرض سيطرتنا على الباقي»، ثم تصافح الرجلان دليلا على إتمام الصفقة. أراد سايكس أن يظل العرب تحت حكم فرنسا وإنجلترا لمدة عشر سنوات فقط، أما رئيسا وزراء البلدين فلم يحددا وقتا معينا لذلك. ويبدو سرد أندرسون للأحداث مشوقا، لا سيما عندما ينتقل للحديث عن وعد بلفور. كان وعد بلفور عبارة عن رسالة موجزة من ثلاث فقرات مكتوبة باليد موجهة من وزير الخارجية البريطاني إلى المصرفي اليهودي، اللورد روتشيلد. وكما يوضح أندرسون، لم تجر مناقشة هذا الوعد حتى خلال اجتماعات الحكومة البريطانية، حيث لم يقرر البريطانيون ماذا يعني وعد بلفور بالضبط. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بذلت حكومة رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي كل ما في وسعها لمنع قيام إسرائيل، وعندما قامت دولة إسرائيل، لم تعترف حكومة أتلي بها لمدة 18 شهرا. لقد كانت فكرة عودة اليهود إلى فلسطين جزءا من الصخب الشائع في أوروبا في ذلك الوقت منذ القرن التاسع عشر. وقد ذُكرت تلك الفكرة في عدة روايات من بينها رواية «كونينغسبي» لبنجامين دزرائيلي، ورواية «دانيال ديروندا» لجورج إليوت. كما حاول ثيودر هيرتزل في روايته «الأرض القديمة الجديدة» أن يعطي تلك الفكرة عمقا آيديولوجيا. وكانت الفرضية السائدة في ذلك الوقت هو أن العرب واليهود - الذين يفترض أنهم أبناء عمومة - من الممكن أن يعيشوا ويعملوا معا من أجل خلق نموذج جديد للمجتمع البشري تخفف فيه الروحانية القديمة من حدة المادية الحديثة. يُعد كتاب «لورنس في جزيرة العرب» تصويرا رائعا للعجز البريطاني والارتباك والعداوات المستمرة بين الفصائل المختلفة. ويلقي الكتاب الضوء على الطبيعة الجشعة للزعماء العرب، الذين يعاملون شعوبهم باحتقار ويقضون حياتهم في تكديس، وفي بعض الأحيان سرقة، ما يستطيعون من الذهب والأموال. وقد استطاع لورنس استغلال هذه الخلفية من البلبلة حتى يروج لصورته الخاصة ويغذي وحش غروره. وقد اعترف لورنس نفسه أنه كان يروج لفكرة غير واقعية. في ذلك الوقت، كانت بريطانيا وحلفاؤها يريدون خلق أسطورة أخلاقية تساهم في تخفيف الضغط عن جبهة الغرب حيث كان ينتظر الملايين الذبح خلال حرب خنادق لا معنى لها. وبعد مرور عدة سنوات، يتذكر لورنس لقاءه بالجنرال أللنبي، حيث يقول «لم يستطع أللنبي أن يكتشف على وجه الدقة مقدار الجزء الحقيقي والجزء الزائف في شخصيتي». السؤال الآن: ماذا لو كان أداء حقيقيا من شخص يجيد التمثيل؟

كتب أنقذتني في زمن القتل الأخوي كتب أنقذتني في زمن القتل الأخوي

0
0
حين أغمض عيني وأقفز من نافذة الحلم الليلية لأعود إلى الطفولة، أجد نفسي مع أمي وجيراني.. كلنا في الطابق الأول من العمارة اعتقادا منا أنه الأكثر أمنا في زمن الحرب الأهلية اللبنانية. في زمن غدر، قد تكون القذيفة من حزب أحد عناصره من نفس المنطقة أو الشارع، وأحيانا كثيرة من نفس البيت. أعود إلى الطابق الأول حيث تجلس أمي فوقي لتحميني من الموت. أعود إلى الليلة التي سمعت فيها انفجارا كبيرا وبعدها مباشرة حجبت سحابة بيضاء رؤيتي لكل من كان حولي.. كنت خائفة أن أنادي أمي فلا تجيبني. للحظات قليلة عم الهدوء... وكأن الكل كان خائفا من الشيء نفسه.. كانت لحظة موت موصولة بصداقتي اللاحقة للكتاب. بعد ذلك الحادث قررت أمي أن نغادر بيتنا في بعبدا، المكان الأكثر استهدافا في تلك الفترة... انتقلنا إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث كانت تعمل ممرضة، وكانت عمتي رئيسة قسم التمريض في المستشفى نفسه.. وبحكم منصب عمتي الكبير كان عندها بيت داخل المستشفى، فسكنت معها في بيتها... كانت تذهب إلى العمل وأبقى وحيدة... لا حقل أركض فيه، ولا فراشات أطاردها، ولا لعبة صغيرة أسرح لها شعرها.. ولكم كانت هناك مكتبة صغيرة تزدحم بالكتب. وكنت في العاشرة من عمري ولم يكن أمامي خيار سوى أن أصادق الكتاب... ولفتت انتباهي مجموعة روايات جرجي زيدان عن تاريخ الإسلام، تلك الروايات الرائعة التي دمجت بين التاريخ والقصص العاطفية.. في ذلك الوقت لم يكن يهمني دقة الأحداث التاريخية بقدر اهتمامي بالقصة العاطفية وتأثري بها... قصص جعلتني أبدأ بالتعرف على رومانسيتي وأنوثتي.. وتدريجيا بدأت أعشق القصص التاريخية بسبب أسلوب زيدان المتميز بالتشويق. وبات الخيال ملجأ لتلك الطفلة البريئة لتهرب من الحرب... وكأن كتابات جرجي كانت جسرا من الخيال ينقلني إلى عالم رومانسي آخر بعيد كل البعد عن زمن القتل الأخوي. ومرت الأيام لتدخل الشابة الجامعة الأميركية في بيروت وتتعرف على فن المسرح الروائي مع سعد الله ونوس وكتابه «الفيل يا ملك الزمان». علمتني هذه المسرحية عدم الاستسلام للظلم والتمرد على الضعف والخروج من الخوف ومساندة الحق. ومن الأسماء التي أسرتني في ذلك الوقت فدوى طوقان في أعمالها الشعرية الكاملة، وصولا إلى محمود درويش ونزار قباني وبدر شاكر السياب ودواوينهم الرائعة التي نضجت بين أحضانها. ولا يمكنني أن أنسى غادة السمان في كتابها «الحنين إلى الياسمين».. تلك الكاتبة الرقيقة صاحبة الخيال الخصب والصور الشعرية المبدعة.. شاعرة تدخل ديوانها وكأنك تدخل من بوابة أليس إلى مدن العجائب. لي حكاية حب قصيرة مع كل هذه الكتب... وكل كتاب منها دون قليلا من شخصيتي وبلور أفكاري وحدد وجهتها فتشكلت امرأة عاشقة لقدسية الحرف... وفي بحث دائم عن كتاب جديد يوقعني في غرام سحره ويحملني بعيدا عن كوكب الخذلان. * شاعرة بريطانية ـ لبنانية * لها: «ممر وردي بين الحب والموت»، «هالوين الفراق الأبدي» و«حبيب لم يكن يوما حبيبي».

خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة

0
0
إبراهيم، الذي بدأ يكتب شعرا في حب الوطن هو خير أنموذج للشخصية المهاجرة التي وجدت نفسها على هامش الحياة الأميركية. فهو يشعر بغربة شديدة، وأطفاله لا يتحدثون سوى الإنجليزية، كما أن الجيران يضايقونه لأسباب واهية. قليلة هي الروايات الإشكالية التي تدور في فلك المغايرة والاختلاف، و«سهدوثا»، الرواية الأولى للكاتبة ليلى قصراني، هي من هذا النمط الإشكالي الذي يستفز المتلقي، ويثيره، ويلفت عنايته إلى أشياء كثيرة كانت متاحة أمامه لكنه لم ينتبه إليها من قبل. وعلى الرغم من أن هذه الرواية لا تنتظم في سياق سردي تقليدي لأنها موزعة على شكل حكايات متناثرة، وشخصيات كثيرة، وأحداث متعددة وشائكة يقع معظمها في العراق، ويتشظى بعضها الآخر في المكسيك وكاليفورنيا وتكساس، ثم تتكثف خلاصتها على قمة جبل «سهدوثا» المقدس قبل أن تحط على أرض الوطن التي تنعقد عليها الآمال. ارتأت ليلى قصراني أن تقسم نصها الروائي إلى ثلاث وحدات سردية كي تغطي كل وحدة جيلا بكاملة. فالوحدة الأولى تتناول جيل الجد والجدة، فيما تقتصر الوحدة الثانية على جيل الأب والأم والأعمام والأخوال، أما الوحدة الثالثة والأخيرة فتركز على الجيل الثالث من الأحفاد وأبنائهم. وبما أن الروائية قد خلخلت البناء التقليدي لنصها الروائي فلا غرابة أن تبدأ «سهدوثا» بجملة استهلالية صادمة مفادها «أنها لم تر أحدا قط يشرب البترول سوى أبيها كي يتخلص من الديدان الشريطية العالقة بأمعائه»، أي أنها بدأت المسار السردي بالجيل الثاني الذي يمثله الأب، فيما أرجأت أحاديث الجد قليلا كي توحي لنا بأن الأنساق التتابعية ليست ضرورية في الرواية الحديثة التي اصطلح عليها باللارواية، أي الجنس الأدبي الذي ينسف الأنساق التقليدية الروائية المتعارف عليها كما هو الحال في روايات الكاتب الفرنسي ألن روب - غرييه وغيره من الروائيين الفرنسيين الذين كتبوا نماذج روائية مضادة للأشكال التقليدية. وعلى الرغم من كبر الجد وقدم الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها نسبيا إلا أنه يمتلك ذهنية متفتحة يحسد عليها حقا فهو «لا يحب القساوسة كما دخل الكنيسة مرتين، يوم عمدوه ويوم تزوج، وسوف يدخلها مرة ثالثة حينما يموت!» وهذا يعني من بين ما يعنيه أنه لا يضع قدراته الذهنية في القضايا الغيبية في الأقل، كما يكشف عن تعلقه بالأمور الدنيوية أكثر من انشداده إلى الأمور الميتافيزيقية. وأكثر من ذلك فهو يشكك بنيات الإنجليز، وينبه إلى مخاطرهم الجمة بوصفهم محتلين للبلاد. أما الجدة فتبدو متلصصة على حفيداتها، ومتعلقة بسرد الحكايات، ومنقطعة إلى ممارسة الشعائر الدينية كما تحض أولادها وأحفادها على الاهتمام باللغة الآشورية. يلعب الأب داود دورا مهما في استذكارات الراوية، وهي الشخصية التي تقنعت بها ليلى قصراني واتخذت منها وسيلة للتعبير عن آرائها وقناعاتها الثقافية والفكرية والدينية في الحياة. فالأب، في حقيقة الأمر، مساعد مضمد لكن الناس ينادونه بالدكتور داود، وما يلفت النظر في شخصيته الخارجة عن المألوف بعض الشيء أنه لم يطالب أخاه موشي بحصته من الميراث الذي خلفه الأب الراحل. كما أن زوجته تبدو طيبة مثله ولا تشجع أبناءها على إثارة المشكلات مع عمهم الجشع موشي، الذي استولى على الأرض الزراعية وحرم أشقاءه منها بحجة أنهم لا يعرفون أهميتها، ولا يجيدون زراعتها. يشكل الأحفاد رصيدا مهما في شخصيات الرواية بدءا من الأخ إبراهيم، الذي هاجر إلى أميركا واستقر بكاليفورنيا، مرورا بيعقوب الذي سيراهن على فعل الهجرة ليموت مختنقا في نهاية المطاف، وانتهاء بسامي، الذي يقرر الصعود إلى قمة جبل سهدوثا لكنه لم يجد بدا من الهبوط إلى الأرض بعد فشل رهانه على العالم السماوي الذي انطوى على مفاجآت كثيرة من دون أن نهمل فاروقا الذي سيصاب بالصرع أو تمارا التي تقترن بفؤاد الذي يعاملها بقسوة شديدة فيما تنجب هي ابنها البكر «سلام» لكنها تكتشف لاحقا أنه أعمى فتنقلب حياتها رأسا على عقب. تراهن الرواية برمتها على أن الخلاص الفردي ليس حلا، وأن الوطن هو المكان الطبيعي للشخصيات المهاجرة التي ينبغي أن تعود بعد أن أمضت سنوات كثيرة في الغربة. وقد يكون إبراهيم الذي بدأ يكتب شعرا في حب الوطن هو خير أنموذج للشخصية المهاجرة التي وجدت نفسها على هامش الحياة الأميركية. فهو يشعر بمنتهى الغربة، وأطفاله لا يتحدثون سوى الإنجليزية، وأن الجيران يضايقونه بفظاظة، حينما تتسلق نباتاته على جدار حديقتهم. فلا غرابة إذن حينما يفكر بالعودة على الرغم من أن زوجته سمر تفضل البقاء في أميركا. قد يقف الأخ الأصغر يعقوب على النقيض تماما من شخصية إبراهيم، فهو متذمر منذ البداية من وجوده في العراق الذي كان يخوض حربا شعواء مع إيران، وسوف يعاني لاحقا من حصار ظالم يفتك بالناس البسطاء. ولو توغلنا في حياة يعقوب الشخصية لوجدناها الأكثر إثارة بين إخوانه فهو مشاكس كبير ويمتلك نوعا من القسوة التي لا نجدها عن أشقائه جميعا، ولا يجد ضيرا في انتهاك بعض المقدسات. وفيما يتعلق بالجانب الجنسي فهو الأكثر هوسا بين أشقائه وقد حفلت الرواية بمغامراته العاطفية التي حركت المسار السردي كثيرا. لا تخلو شخصيات الرواية من إشكاليات وأمراض نفسية وبدنية، ففاروق مصاب بالصرع، وعدنان أعرج، والراوية تكره شكلها لأن «وجهها صغير، وأذناها كبيرتان، وجسدها نحيل، وقامتها قصيرة»! ثمة شخصيات أخرى معطوبة، وهناك شخصيات منكسرة ومدحورة اجتماعيا، فسعاد كانت تمتهن البغاء، وعمة الراوية فريدة هربت مع رجل متزوج وتوارت عن الأنظار. وسامي الموزع بين عالمين أرضي وسماوي يقرر الصعود إلى جبل سهدوثا «الشهادة» ليعري لنا عالم القساوسة ويكشف عن تناقضاتهم فيقرر النزول إلى الأرض والغوص في الحياة اليومية بعيدا عن تجليات الروح وأقانيمها التي تقع معظمها في إطار حلمي قد لا ينتمي إلى واقعنا الأسيان كثيرا. لا تخرج غالبية الوقائع والأحداث والحكايات في هذا النص الروائي عن أطرها الرمزية والمجازية ويكفي أن نشير هنا إلى حكاية عشتار التي سمعتها الراوية من جدتها. فالقواد مردوخ، الذي يعمل بوابا في القصر الملكي سمع أن الحكماء السبعة للملك الفارسي أحشيورش يبحثون عن ملكة جديدة تحل محل الملكة «وشتي» التي رفضت أن تتعرى أمام حاشية الملك في حفل خاص كي يتباهى بجمالها لكنها لم تطعه لأن هذا الجسد جسدها وهي الوحيدة التي تمتلك سلطانا عليه، فجلب مردوخ قريبته اليتيمة «هدسة» وقدمها باسم عشتار التي رقصت أمام الملك وفازت بالمسابقة فتوجها ملكة على العرش وأصبحت شريكة حياته المفضلة فيما أصبح مردوخ الرجل الثاني في المملكة وكان السبب في إعدام رئيس الوزراء هامان الذي تآمر على ملك عيلام. حكايات هذا النص الروائي كثيرة ولا يمكن حصرها في مقال واحد. وبغية الوصول إلى نهاية مرضية لا بد من الإشارة إلى رحلة سامي إلى جبل سهدوثا التي اكتشف من خلالها أن عالم السماء لا يخلو من شرور وملابسات معقدة، لذلك قرر العودة إلى العالم الأرضي والعيش فيه بمحاسنه ومساوئه. كما أن عودة إبراهيم من المنفى والموت المفجع ليعقوب يفندان فكرة التعويل على الهجرة. وأكثر من ذلك فإن الراوية ظلت تطرق على باب عمتها على أمل أن تفتح هذا الباب الذي أوصدته منذ سنوات طويلة. هذا النص السردي بتقنيته الحديثة المضادة لتيار الرواية يكشف عن موهبة صاحبته ليلى قصراني وقدرتها على الإتيان بأعمال روائية جديدة قد تفاجئنا بها كما فاجأتنا برواية «سهدوثا» التي أعدها علامة فارقة في المشهد الروائي العراقي في الأقل.

الفلسفة.. خمس فترات كبرى الفلسفة.. خمس فترات كبرى

0
0
هل يمكن لكتاب واحد مهما علا شأنه وكبر حجمه أن يلم بتاريخ الفلسفة منذ نحو الثلاثة آلاف عام وحتى اليوم؟ هل يمكن لمثقف واحد أن يستعرض لنا نظريات الفلاسفة الكبار بدءا من هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو وانتهاء بميشال فوكو وهابرماس مرورا بديكارت وسبينوزا وجان جاك روسو وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وسارتر، إلخ، إلخ..؟ هذا هو التحدي الكبير الذي واجهه لوك فيري ولم يفشل في المواجهة بل كان على مستوى التحدي. والسبب هو أنه مختص كبير في تاريخ الفلسفة وقد أمضى عمره في دراستها وتدريسها. وعلى سبيل النكتة فقد كان يعزف الموسيقى في مقاهي ميونيخ ويمد يده لكي يعطوه بعض الفلوس كما يفعل الشحاذون المحترمون. على هذا النحو كان يكسب رزقه في شبابه الأول لكي يستطيع إكمال دراساته الفلسفية في الجامعات الألمانية. ثم قفز بعدئذ في سلم الشهرة والمجد حتى بلغ أعلى الدرجات الجامعية والأكاديمية، بل وأصبح وزيرا للتربية والتعليم في عهد جاك شيراك. وهكذا أضاف إلى ثقافته النظرية الواسعة تلك الخبرة العملية والسياسية التي تنقص المثقفين عادة. وعن كل ذلك نتج لوك فيري الحالي: أي فيلسوف فرنسا الأول في هذا العصر. وبالتالي فهو قادر على أن يطل على تاريخ الفلسفة من عل شاهق ويراه من خلال نظرة بانورامية شاملة من أوله إلى آخره. وهذا ما يهمنا نحن المثقفين العرب في الموضوع. نحن أيضا نريد أن نعيد للفلسفة احترامها ومكانتها في بلادنا بعد أن فقدتها منذ الدخول في عصر الانحطاط. بل ونحن أحوج إلى تاريخ الفلسفة هذا من الفرنسيين والإنجليز والألمان وبقية الأوروبيين. لماذا؟ لأنهم شبعوا فلسفة وتفلسفا منذ قرنين وحتى الآن. ثم لأن المراجع الفلسفية في لغاتهم لا تحصى ولا تعد. ثم لأن الفلسفة ليست محاربة عندهم أبدا كما هو عليه الحال عندنا حيث يلعنها المتطرفون ويكفرونها منذ زمن طويل. لكي يستعرض المؤلف تاريخ الفلسفة بشكل منهجي واضح فإنه يقسمه إلى خمس فترات أساسية. الفترة الأولى تخص العصور اليونانية - الرومانية القديمة الممتدة من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس بعد الميلاد: أي من هزيود وطاليس إلى أرسطو وفلاسفة الرومان.. وفي هذه المرحلة سيطرت رؤية معينة للعالم هي التي يدعوها المؤلف: بالنظام المتناغم للكون. بمعنى أنهم كانوا ينظرون إلى العالم بصفته كونا مشكلا بطريقة متناغمة ومتناسقة ومنسجمة. وهدف كل إنسان بعد موته أن يندرج في هذا النظام المتناسق للعالم. وأما الفترة الثانية فتخص العصور المسيحية التي انتصرت على الفلسفة اليونانية وعلى الديانة اليهودية في آن معا. وهي ممتدة على عشرة قرون بدءا من القديس أغسطينوس وحتى القديس توما الأكويني. ولكنها تشمل أيضا الفلسفة العربية من خلال ممثلين أساسيين هما ابن رشد وابن ميمون. صحيح أن ابن ميمون كان يهوديا ولكنه عاش في بلاد الإسلام طيلة حياته كلها وكتب مؤلفه الأساسي باللغة العربية: «دلالة الحائرين». وبالتالي فهو يعد عربيا من الناحية الثقافية. كل من ألف وأبدع في اللغة العربية فهو عربي. وهذه الفترة التي شهدت انتصار الدين لم تعد تجد الخلاص في الاندراج في النظام الكوني المتناسق للعالم وإنما من خلال الإيمان بالله والنجاة في الدار الآخرة. وأما الفترة الثالثة من تاريخ الفلسفة الطويل فقد ابتدأ مع عصر النهضة الذي كان بمثابة انقلاب على العصور الوسطى المسيحية. فكما أن المسيحية انتصرت على الفلسفة قبل ألف سنة فإن الفلسفة انتقمت لذاتها وانتصرت على المسيحية بدءا من انبثاق الأزمنة الحديثة في عصر النهضة. وهذا ما يدعوه لوك فيري باسم: استهلال عهد النزعة الإنسانية الأولى. وهذه الفترة تمتد من «بيك الميراندولي» في القرن الخامس عشر وحتى كلود ليفي ستروس في القرن العشرين. ولكن هذه الفترة التنويرية الضخمة التي شهدت انتصار الحداثة في أوروبا تشمل عدة لحظات أساسية كاللحظة الديكارتية، واللحظة الكانطية، واللحظة الهيغلية - الماركسية، إلخ.. وهذه الفترة الضخمة شهدت انتصار الأنوار على الأصولية المسيحية. وساد عندئذ الاعتقاد بأن خلاص الإنسان سيكون عن طريق شيء جديد هو: الإيمان بفكرة التقدم التاريخي الناتج عن العلم والتكنولوجيا. أما الفترة الرابعة من تاريخ الفلسفة فيدعوها المؤلف: بزمن التفكيك. وهنا يتحدث عن ثلاث لحظات أساسية: لحظة شوبنهاور، ولحظة نيتشه، ولحظة هيدغر. ولكنه يتحدث أيضا عن تلامذة هؤلاء من أمثال فوكو وديلوز ودريدا.. وهذه الفترة حاولت تفكيك أوهام الفترة السابقة التي أغرقت في الإيمان بالعلم والتكنولوجيا. ولهذا السبب انهمك هؤلاء الفلاسفة في تفكيك الأنظمة الفلسفية الكبرى لديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل وسواهم من فلاسفة الأنوار. وهنا نلاحظ أن فلاسفة الأنوار الذين فككوا الأصولية المسيحية وانتصروا عليها تعرضوا هم بدورهم للتفكيك! أما اللحظة الخامسة والأخيرة من تاريخ الفلسفة، أي لحظتنا نحن، فيدعوها لوك فيري باستهلال عهد النزعة الإنسانية الثانية: أو ثورة الحب. وهنا يعد نفسه المنظر الأكبر لهذه المرحلة من تاريخ الفلسفة الغربية. هنا يبلور الخطوط العريضة لفكره أو نظريته الفلسفية الشاملة عن معنى الوجود. لنحاول الآن أن ندخل في التفاصيل أكثر. يرى لوك فيري أن هذه الفترات الخمس الكبرى من تاريخ الفلسفة كانت تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الحياة الطيبة والخيرة؟ ما معنى الوجود؟ كيف يمكن أن نفسر العالم والكون؟ كيف يمكن أن ننتصر على الخوف من الموت؟ وهل يوجد شيء بعد الموت يا ترى أم لا؟ هل هناك عدم أو فناء أبدي كما يقول الملاحدة؟ من الواضح أن كل فترة كانت تقدم أجوبتها. وهي أجوبة تختلف من فترة إلى أخرى. فمثلا نلاحظ أن المسيحية انتصرت على الفلسفة اليونانية لأنها قدمت جوابا أكثر إغراء عن مسألة الموت. الفلسفة اليونانية كانت تعتبر أن الموت هو فناء أبدي ولا يوجد شيء بعده. كل واحد منا يلتحق بالمكان المخصص له في إحدى زوايا الكون ويصبح ذرة من ذراته وانتهى الأمر. أما المسيحية فقالت بوجود خلاص فردي إذا ما آمن الإنسان بالله والدين. قالت للأوروبيين: ستبعثون بعد الموت جسدا وروحا وسوف تلتقون بأحبتكم وكأنكم فارقتموهم البارحة. بمعنى آخر فإن الإيمان بالدين يعني «موت الموت» أو الانتصار على الموت من خلال البعث والنجاة في الدار الآخرة. ومن هذه الناحية فإن الإسلام قدم التصور الأكمل والأجمل على حياة ما بعد الموت والنعيم الأبدي «وجنة عرضها السماوات والأرض». هنا يتفوق جواب الدين على جواب الفلسفة بما لا يقاس. أما المرحلة الثالثة من تاريخ الفلسفة أي مرحلة الحداثة فقد بنت نظريتها على الإيمان بالإنسان ومقدرته على صنع المعجزات. من هنا تسميتها بالنزعة الإنسانية الأولى. إنها تثق بالإنسان ومقدرته على تحسين وضعه بواسطة العقل لا النقل، بواسطة العلم الطبيعي لا اللاهوت المسيحي. وهي التي دشنها ديكارت عندما قال عبارته الشهيرة: «ينبغي أن نصبح أسيادا على الطبيعة ومالكين لها». كيف؟ عن طريق العلم والتكنولوجيا. وهذا هو مشروع الأنوار الذي وصل إلى غايته عندما شكل أكبر حضارة صناعية تكنولوجية على وجه الأرض. وعلى أثر ديكارت مشى كانط وهيغل وكل فلاسفة الحداثة الذين فككوا التراث المسيحي والعقلية الغيبية للقرون الوسطى. ولكن بعدئذ جاء دور فلاسفة الشك والارتياب بحسب تسمية بول ريكور. وهم ماركس ونيتشه وفرويد ولكن قبلهم شوبنهاور. وهؤلاء راحوا يفككون الفلسفة الكلاسيكية ويشككون بثقتها المطلقة بذاتها. ولكن هذه المرحلة التفكيكية للعقل الغربي وصلت إلى نهاياتها على يد هيدغر وفوكو ودريدا وديلوز. فقد بالغ هؤلاء في تفكيك العقلانية الغربية إلى حد الإطاحة بها. لقد انتقلوا من النقيض إلى النقيض وسقطوا في مطب النسبوية والعدمية. لا ريب في أن تفكيكهم للدوغمائية الفلسفية الانغلاقية كان تحريريا وضروريا. ولكن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. ولهذا السبب فإن لوك فيري يدعونا إلى إغلاق مرحلة التفكيك والانتقال إلى ما بعدها. وما بعدها هو المرحلة الحالية التي يعد نفسه المنظر الأكبر لها. إنه كتاب ممتع حقا ومفيد جدا لمن يريد التعرف على مختلف مراحل الفكر البشري. إنه يلقي إضاءات ساطعة على تاريخ الفلسفة والفلاسفة على مر العصور. إنه لشيء مهم أن نعرف ما الذي أضافه ديكارت إلى أرسطو، أو سبينوزا إلى ديكارت، أو كانط إلى سبينوزا ولايبنتز وديكارت، أو هيغل إلى كانط، أو نيتشه إلى هيغل، أو هيدغر إلى نيتشه، إلخ، إلخ.. كلها أشياء يتخبط فيها المثقفون العرب حاليا دون أن يصلوا إلى نتيجة واضحة في معظم الأحيان. والسبب هو أننا نتسرع في نقل النظريات الفلسفية الغربية دون أن تكون ناضجة في أذهاننا. ميزة لوك فيري في كتابه هذا ومعظم كتبه الأخرى هي أنه يحاول أن يكون واضحا كل الوضوح فلا يلقي الكلام على عواهنه ولا يسقط في لغة المعميات الغامضة التي توهمنا بأن الفلسفة كلها ليست إلا مجموعة طلاسم مبهمة. ولهذا السبب كرهها الكثيرون عندنا وانصرفوا عنها معتقدين أنه لا طائل من ورائها. ولكن الفلسفة الحقيقية ليست كذلك. إنها فكر نير، واضح، لا لبس فيه ولا غموض. إنها تساعدنا على فهم المجتمع والعالم والقضايا الكبرى. لا يوجد فيلسوف كبير واحد إلا وهو يريد التوصل إلى نتيجة محسوسة، إلى فتح جديد من فتوحات الفكر. ولذا ينبغي التخلي عن التصور القديم العقيم للفلسفة: أي عن الفهم التجريدي السائد عنها في العالم العربي.

إصدارات مجلة «الرسالة» أدخلتني مدرستي النثرية الأولى

0
0
القرآن الكريم هو بداية علاقتي بعالم الكتب، حيث كان أول كتاب تلمسه يدي وأنا في السابعة من عمري عندما شرعت في حفظ القرآن الكريم، وذلك على يد مشايخ الأزهر، فجدي كان من علمائه لكنه توفي وهو في السنة النهائية بتخصصه في القضاء الشرعي. وهي كانت علاقة قوية وقاسية ومرهقة أيضا لأنني كنت أحفظه بالفطرة دون الوعي والفهم، لكنها كانت قراءة مهمة لعبت دورها في زرع الهياكل العميقة للغة العربية وإيقاعاتها وبلاغاتها العالية في نفسي، ومن ثم كان القرآن يمثل قدرا من المثل الأعلى في الإيجاز والقوة والتركيز، وهو ما كنت أدركه بالحس وليس بالفهم. وأعتقد أن كل من يبدأ حياته بحفظ القرآن الكريم يتأصل لديه قدر من الوعي اللغوي والتحكم البلاغي والقدرة على البيان بما لا يضاهيها أي كتب أخرى. وفي مرحلة تالية، عندما تخرجت في المرحلة الابتدائية، كنت أقرأ الصحف وبعض المجلات الأدبية. وعلى الفور، بدأت علاقتي بالشعر بعد ذلك لأني عثرت على دواوين شعرية في مكتبة جدي، وحفظت الشوقيات وبعض القصائد الشعرية بالتوازي مع حفظ القرآن الكريم. هذا بالإضافة إلى حفظ آلاف الأبيات الشعرية كـ«ألفية بن مالك»، أو شواهد القواعد النحوية بحكم دراستي الأزهرية، فالتحمت الذاكرة الطفولية بالأبيات الشعرية وكان حفظ الشعر أيسر بكثير. كتاب مجلة «الرسالة» التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، كان مدرستي الأساسية الذي دخلت من خلاله عالم الكتابة النثرية، فقرأت فيه لمصطفى صادق الرافعي وطه حسين وإبراهيم المازني وأنور المعداوي وغيرهم من عشرات الكتاب الذين كانوا يمثلون السلالم الأولى لصعودي في منطقة الاطلاع على جوانب الفكر والمقالات والترجمات والكتابات التحليلية، فكانت «الرسالة» بأعدادها القديمة المتوافرة بالمكتبة الخاصة لدي هي المدرسة الأساسية التي أشبعت بها فضولي وزودت بها معلوماتي في نفس الوقت؛ فالقراءة الحرة أحب إلى الإنسان من القراءة المبرمجة. في تلك المرحلة، تطلعت إلى قراءة طه حسين، وشغفت شغفا عظيما بكتابات توفيق الحكيم وتشويقه الجاذب الأكبر، وقرأت أيضا للمنفلوطي الذي كان يمثل ذروة الرومانسية لنا في فترة الأربعينات، كما قرأت له مقالات مهمة في مرحلة لاحقة. وفي سن الشباب الجامعي، اتسعت دائرة القراءة لتشمل جيل يحيى حقي وسعيد العريان قبل أن أنتقل إلى المدرسة الروائية الحقيقية وروادها نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله ويوسف غراب، وغيرهم من عشرات الروائيين الذين كانوا يمثلون ازدهارا حقيقيا للجيل الأول من الروائيين المصريين. قراءة الشعر كانت المحطة التالية في علاقتي بعالم الكتب، فقرأت لإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وإبراهيم ناجي، وكان أحب الشعراء إلى قلبي علي محمود طه الذي تأثرت به بشكل عميق في بداياتي، خاصة قصيدته «الملاح التائه»، وكان حبي الكبير للشعر وراء عشقي للاستماع إلى القصائد التي كانت تغنيها أم كلثوم، وأذكر أنني وأنا في العاشرة من العمر كنت مغرما جدا بأغنيتها «سلوا قلبي» رغم صغر سني، وكنت أنبه على والدتي بأني توقظني من النوم لو أذيعت الأغنية أثناء نومي بالليل، وكذلك عشقت القصائد التي غناها عبد الوهاب، وخاصة «أخي جاوز الظالمون المدى». ساهم تفوقي في الدراسة في تعميق علاقتي بالكتاب، لأن جوائزي التي كنت أحصل عليها كانت كلها عبارة عن كتب منحها لي أساتذتي، وهو ما ترك بنفسي ذكريات خاصة وغالية جدا مع الكتاب. تحولت من قراءة الكتب إلى المساهمة في الكتابة على عدة مراحل؛ فبدأت بكتابة الشعر، ولكن لم يعجبني الشعر الذي كتبته فتوقفت عنه، متوجها لكتابة القصة القصيرة، لكن ما كتبته لم يرضني فمزقته! لأكتشف نفسي بعد ذلك بتوجهي نحو الكتابة النقدية. فعندما أقام المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مسابقة لكتابة الأبحاث على مستوى مصر، تقدمت لها وظللت أحصل على المركز الأول سنويا، فأدركت أن مستقبلي يرتبط بالبحث، واستشعرت أن البحث في الأدب تحديدا هو الذي يمكن أن أكتب فيه والمعروف عليه اصطلاحا بالنقد الأدبي. وأذكر أنني في سن السادسة عشرة قدمت بحثا تحليليا لمجموعة شعرية اسمها المفضليات في الشعر وفزت بالجائزة الأولى. قراءاتي في الأدب كانت هي المدخل لعالم الثقافة كله، لأن القراءة في الأدب لا تقتصر على مجال محدود وإنما تتسع لتكون خير رؤية للحياة. فرغم القوة الأدبية للغة العربية، كنت أستشعر أن هذا جانبا واحدا فقط من المعرفة وأنه لا بد من استكماله بجوانب أخرى، فتوسعت في قراءة القانون والاقتصاد والفلسفة، وخاصة فلسفة العلوم بجانب الفنون المحدثة كالسينما والموسيقى والفنون التشكيلية. * ناقد مصري

المسؤولية الطبية.. تشريعا وتطبيقا المسؤولية الطبية.. تشريعا وتطبيقا

0
0
يتميز الفقه الإسلامي بواقعية الملاءمة بين التشريع والتطبيق؛ لأن مصدره هو الوحي من العالم بظروف البشر ومتغيرات أحوالهم وما يصلحهم، لذا فمن المؤكد أن الفقه الإسلامي يستوعب الحوادث والتطورات الزمنية والموضوعية، أي كل ما يتعلق بالفكر وجميع ما يتصل بمعاش الناس، كما لم يحرم الفقه الإسلامي في سائر عصوره من بزوغ نجم فقهاء رزقهم الله تميزا في مادة وأس هذا الفقه سعة فهم لموضوعه واستيعاب إدراك لدقائقه، وشمول إحاطة بمراميه وغاياته، فلعل ذلك يفسر كثرة كنوز الثروة الفقهية وتجدد اكتشافها في كل جيل. وفي جانب آخر، يقال إن الاكتشافات الطبية التي تتجدد دوما ليست وليدة اليوم أو هذا العصر؛ فمنذ عرف الإنسان عرف الأسقام والأمراض وتعلم كيف يداويها بحسب قدراته والمتاحات أمامه، وربما لا أبتعد عن الصواب إذا قلت: إن معطيات البيئة حوله لا سيما الأعشاب ظلت، ولا تزال، المادة الأولى للعلاج المادي للأمراض وإنما طرأت تطورات علاجية تتعلق بالكيفية التي تناسب حاله والمتاحات أمامه في كل عصر. وهنا يولد سؤال والسؤال يلد عدة أسئلة: ما طبيعة المسؤولية الطبية؟ وما أبعادها؟ وما ثمارها؟ وما تكييفها الفقهي الشرعي؟ من المؤكد أن إدراك مفهوم وحقيقة المسؤولية الطبية يعد ضرورة ملحة في عصرنا، فنجدها تنطلق في المجتمع غير المسلم من بواعث مهنية عند البعض وإنسانية عند البعض الآخر. أما في المجتمع المسلم فتنطلق من بواعث شرعية محروسة بزواجر تحميها من القصور في الفهم أو السلوك في ساحة تموج بالإمكانات وتتنازعها الجواذب. والطريق إلى هذه البواعث لا يسلك إلا بالتكييف الفقهي الصحيح للقضايا والمستجدات المعاصرة، فليس إلا الفقهاء لهذه المهمة، والمنهج الأسد - في رأيي - هو تشكيل بنى فكرية قادرة على تحفيز الإنسان معرفيا نحو تشغيل عقله وتفعيل مدركاته بالعلم الشرعي والفهم الصحيح لمقاصد النصوص؛ فالظروف المعاصرة رغم ما فيها من غلبة للجوانب المادية وقصور في بعض الجوانب الأخلاقية مهيئة لقبول هذا المنهج المعرفي وليست طاردة له كما قد يراه ذوو النظر المتعجل والأفق الضيق؛ لأن فقدان العناصر الإيجابية للبقاء يعني في الجانب الآخر تشغيل فطرة المقاومة عند الإنسان والاستعداد للبحث عن ما يروي ظمأه ويشبع نهمه بما يوافق فطرته السوية وهذا هو ما يحمله هذا المنهج المعرفي المتوازن. وفي ضوء هذه الإلماحات تأتي سلسلة دراسات وأبحاث معاصرة التي أصدرها الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء السعودية وأستاذ الفقه في جامعة الملك فيصل بالأحساء، التي ضمت ثمانية مجلدات أنيقة الطباعة رائعة السبك، محكمة المعالجة الفقهية المنهجية، خصص الجزء الأول منها عن «المسؤولية الطبية» والثاني عن «العقد الطبي» في حين جال في الجزء الثالث بـ«مقالات وخواطر» ذات صبغة فقهية موجزة وميسرة التناول. أما الجزء الرابع فخصصه للتعمق في «آراء القاضي عبد الوهاب البغدادي الأصولية»، معرجا في الجزء الخامس على «الرشوة أركانها وطرق إثباتها» ودارسا في الجزء السادس دراسة مستفيضة «خيار المجلس» ومتناولا في الجزء السابع «الرقية تعريفها وصفتها»، مختتما سلسلته بـ«من فتاوى العصر في نوازله ومستجداته». وفي هذه السطور وبما يسمح به حيز الإبداء حسبي إضاءات عن الجزأين الأولين من هذه السلسلة أجزم أنها لاتسمن ولا تغني من جوع لعمل علمي محكم بحجم هذه السلسلة. فعن «المسؤولية الطبية» تناول المؤلف بتكييف فقهي وأصولي تعريف المسؤولية الطبية ومشروعيتها وتعريف العمل الطبي ومراحله ومشروعية الطب وفضله وموجبات المسؤولية شارحا مفهوم العمد والخطأ في الطب في ضوء أصول المهنة الطبية وأنواعها وشروط اعتبارها وأحكام مخالفتها فقهيا وحكم ضمان الطبيب الغار وشروط وعلة إسقاط المسؤولية في ضوء معرفة الطبيب وأهليته والإذن له بالعلاج وعدم التعدي وما إلى ذلك مخصصا الجزء الأخير لـ«إثبات الموجبات والآثار المترتبة عليها». وفي رأيي أن هذا الباب هو ذروة سنام التكييف الفقهي لموضوعات الكتاب، حيث أشار إلى مشروعية الإثبات وحكم التداعي بين الطبيب والمريض مكيفا بمعالجة فقهية منهجية وسائل الإثبات والإقرار والشهادة والكتابة وأثر العمد والخطأ ومخالفة أصول المهنة أو الجهل بها أو تخلف إذن المريض أو ولي أمر المسلمين (الرخصة الطبية) وأثر الغرور (الغرر) أو رفض العلاج أو العلاجات المحرمة وأثر إذن المريض للطبيب بقتله أو مادون القتل، وأثر إفشاء ما تدعو الضرورة لستره من أسرار المريض وكذا ستر ما تدعو الضرورة لكشفه. أما «العقد الطبي» أي أحكام الإذن الطبي الصادر من المريض للطبيب بمعالجته فيؤكد فيه المؤلف أن مابين المريض والطبيب عقد يأخذ الأحكام الفقهية المعتادة للعقود وله آثارها المترتبة. فتحدث عن تعريف الإذن الطبي ومصدره وأنواعه وأقسامه وأركانه، مفصلا القول في إذن المريض وإذن الشارع وإذن ولي الأمر «الرخصة الطبية» بالنظر إلى منشأ ومدى كل إذن، كما تحدث عن طبيعة العقد الطبي وشروطه بالنظر إلى النظريات الفقهية وحكم كل نوع وصيغة الإذن وأهلية الآذن (المريض) والولاية على المريض وأهميتها وأقسامها ومراتبها وولاية المرأة على نفسها وعلى غيرها بحكم الحضانة ومدى هذه الولاية، وضبط المؤلف بالقواعد الفقهية والتكييف المنهجي ما يتعلق بالمأذون له (الطبيب)، من حيث تخصصه العلاجي والتزاماته تجاه المريض ومسؤوليته، كما تناول فسخ عقد الإجارة على العمل الطبي من حيث اللزوم وللأسباب العادية أو لأسباب طارئة موضحا التكييف الفقهي للفرق بين الفسخ من قبل المريض والفسخ من قبل الطبيب. وفي جملة القول، فإن المقصود هو التشويق لقراءة هذا العمل العلمي الرائع في موضوعه وفي منهجه وفي معالجته وفي صياغته بأسلوب مذهل في عسف وترويض الكلمات والجمل كي يستخلص منها القارئ معاني تدني إليه المفهوم والنتيجة من أيسر طريق. ويجدر التنويه إلى أن المؤلف التزم في تأليفه بما لدى المذاهب الفقهية الأربعة السنية المشهورة غير أن أمهات الكتب المالكية كان لها النصيب الأوفر بحكم ذائقة المؤلف الفقهية وحسنا فعل بإخراج كنوزها في هذه القضية المعاصرة المهمة. * عضو اللجنة العلمية السعودية للدراسات الدعوية

مقاربة مغايرة إل الفن الإسلامي مقاربة مغايرة إل الفن الإسلامي

0
0
شغل البحث والنقاش حول ماهة الجمال والفن الإسلامن أذهان الکثر من أهل الفلسفة والفن منذ سنن طولة. وأما فما تعلق بإمکانة وضع الفن الإسلامي أو علم الجمال الإسلامي تحت عنوان موضوع الفلسفة، فإن ذلك مثل موضوعا جادا ومستحقا للدراسة، ذلك لأن الجمال هو من العناصر الأساسة في فلسفة الفن. ور الحکماء المسلمون أن مظاهر الجمال في هذا العالم هي تجلات مهمة للجمال المطلق أي الله. ولذلك فقد اعتبروا بعض الأسماء والصفات الإلهة من قبل خالقة الله مصدر الفن والجمال في العالم الإسلامي. والفنانون هم المجسدون لهذه الأسماء والصفات من خلال خلق آثار عل قدر استطاعتهم. وعد أولفر لمون أستاذ الفلسفة بجامعة جان مورز، لفربول، أحد أبرز الباحثين في الفلسفة الإسلامة خلال القرون الوسط. وقد نقح مع الدکتور نصر مجموعة تارخ الفلسفة الإسلامة بمجلدن. وأما فما تعلق بكتابه الجديد، فإنه ر أن نوعا بالغ الخصوصة من الشعور والوعي قد استخدم في تکون الفن الإسلامي، ولهذا السبب فإن الإسلامي ختلف اختلافا كبرا عن الفنون الأخرى. وهو يرد بقوة على القائلين بأن المسلمن لا جوز لهم في الفن رسم الإنسان وتجسمه. تحد لمون هذه الأفکار ور أنها مغلوطة. وقول في المقابل إن المقاس المستخدمة في الفن الإسلامي جب أن تتطابق مع المعار المستخدمة في الفن بالمفهوم العام وأن السعي من أجل أن نضوي الفن الإسلامي في مقولة خاصة، ناجم عن دراسات استشراقية ذات مفاهيم خاطئة فيما يتعلق بهذا الفن. أنه ر أن الفن الإسلامي فن متسام إل حد کبر، وعلنا أن نتخذ حاله سلوکا تطابق مع المعرفة الجمالة. يقول لمون إن «الکثر من ناقدي الفن الإسلامي لا عتبرونه فنا حققا. ومن المسلم به أنهم عدونه لافتا للنظر ومدهشا بل إنهم کرسون أعمارهم من أجله ولکن لا عتبرونه فنا. وهو ادعاء رهب ذلك لأنهم کتبون حوله في باب الفن وفي کتب تحمل عنوان الفن الإسلامي. وسوف نتوصل إل هذه النتجة، وهي إن هؤلاء الأشخاص صفون الفن الإسلامي بطرق غر متطابقة مع معرفة الجمال والفن. هم تجنبون استخدام لغة نقدية جمالية، بل مصطلحات دنة واجتماعة لوصفه. وهدف هذا الکتاب تحدي هذا الاتجاه». وبعد أن درس لمون أحد عشر خطأ شائعا حول الفن الإسلامي من مثل أن البعض ر أن لا وجود لعلم الجمال الإسلامي، وأن للإسلام أنماطا فنية خاصة به، وأن الفن الإسلامي دني في ذاته وما إل ذلك، عمد إل دراسة بعض القضاا مثل الرسم، والخط، والعمارة، والحدائق، والأدب والموسق في الفن الإسلامي، کما أنه ولي اهتماما من نوع خاص لتعالم القرآن الکرم، إذ رکز اهتمامه عل معن ومفهوم الخلق الأدبي والإعجازي للقرآن. وتستند معالجاته إلى الأمثلة التارخة، والفنة، والفلسفة، والکلامة والآثار الفنة في العالم الإسلامي. ويدرس المؤلف في أحد أقسام الکتاب الخط بشکل شامل وعتبره أفضل الفنون الإسلامة، ففيه تلذذ بجمال الأشکال والخطوط المسطرة عل الأوراق. ويدرس لمون الموسق أضا. وهو ر أن النظرات المحورة في الموسق نمت خلال الفلسفة الإسلامة. وهو يرى أن هناك نظرتين رئستين في الموسق: إحداهما تعود إل الفارابي وابن سنا، والأخرى إل إخوان الصفاء وأبي وسف الکندي، کما تطرق المؤلف بعد دراسة مکانة فلسفة الموسق، إل الموسق الدنة وذکر أن بعض الأنواع من الموسق، والأغاني والمقطوعات، دنة بذاتها. ومکن اعتبار الکتاب الحاضر نظرة جددة من فلسوف غربي إل العالم الإسلامي، حث استطاع التعرف من جدد عل بعض المفاهم التقلدة في الفن الإسلامي، وتناول دلالاتها بالبحث والدراسة. * إعداد «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي)

الناتو في أفغانستان.. نظرات مختلفة لحرب مشتركة الناتو في أفغانستان.. نظرات مختلفة لحرب مشتركة

0
0
صدر حديثا عن دار نشر جامعة برنستون (ولاية نيوجيرسي) كتاب «الناتو في أفغانستان: يحاربون معا.. يحاربون منفردين». وتعرف قوات الناتو في أفغانستان رسميا باسم «قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان». وتختصر بـ«إيساف». وقد تأسست حسب قرار من مجلس الأمن عام 2001، بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن. وحسب اجتماع على مستوى وزراء دفاع الحلف في بروكسل (حيث رئاسة الناتو) بعد ذلك، وضعت أسس أول عملية عسكرية من نوعها للحلف خارج أوروبا. صاحب ذلك اختيار حميد كرزاي رئيسا لحكومة مؤقتة تحل مكان حكومة طالبان التي أسقطها الغزو الأميركي مباشرة بعد الهجمات الإرهابية، وكان الهدف من إرسال قوات الناتو مساعدة الحكومة المؤقتة في بسط السيطرة على كابل أولا والمناطق القريبة منها. وفي عام 2003، أصدر مجلس الأمن قرارا آخر لتوسيع مهمة قوات الناتو في أفغانستان. وفي وقت لاحق، أرسلت دول غير أعضاء في الناتو قوات إلى هذا البلد مثل أذربيجان، وسنغافورة، وأستراليا، ونيوزيلندا. في البداية، تطوعت دول لقيادة «إيساف» كل ستة شهور، وكانت بريطانيا هي أول من تولى القيادة، ثم تبعتها تركيا، ثم ألمانيا، ثم هولندا. مؤلفا هذا الكتاب هما ستيف سيدنمان، الذي عمل في البنتاغون خلال تدخل الناتو في حرب يوغوسلافيا، وديفيد أورزوولد الذي عمل في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي خلال حرب كوسوفو. انطلاقا من هاتين التجربتين، جاء هذا الكتاب، الذي ضم عناوين مثل: الناتو خارج أوروبا، والتدخل المشترك مقابل التدخل الفردي، وقرارات رئاسية وقرارات برلمانية، وعندما تقاتل حكومات متعددة، ومزيد من التدخلات (ليبيا)، والنتائج العملية والنتائج النظرية. ويطرح الكاتبان منذ البداية شكوكهما في جدوى العمل العسكري المشترك، مستشهدين بعبارة من نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر: «أفضل أن أحارب ضد قوات مشتركة بدلا من أن أحارب معها». ومع ذلك، هما يريان أن الحروب، أحيانا، تستوجب العمل المشترك، مستشهدين هذه المرة بعبارة لونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، يقول فيها مناقضا قول نابليون: «يوجد شيء واحد أسوأ من القتال مع حلفاء، وهو أن تحارب من دونهم». وبعد ذلك يستنتج الكاتبان أن تدخل الناتو (بقيادة الولايات المتحدة) كان لا بد منه. وفي الجانب الآخر، يريان أن الناتو تسبب في: أولا: خسائر مدنية. ثانيا: وضع سوابق ربما ليست إيجابية. ثالثا: خلق أزمات أوروبية داخلية للذين أيدوا التدخل. وأشار إلى ما حدث في ألمانيا عام 2009، عندما كادت الحكومة تسقط بعد أن قتلت القوات الألمانية أكثر من مائة مدني في منطقة كندور في أفغانستان. وأشار الكتاب إلى ما حدث في الدنمارك عام 2010، عندما سقطت الحكومة التي كانت تريد تكثيف الوجود العسكري الدنماركي هناك. وقال الكتاب، وهو يلخص الهدف منه: «الحرب مغامرة صعبة. لكن الحرب المشتركة أصعب». لم يغط الكتاب التطورات الأخيرة، لكنه يشير إلى أن الناتو يريد إبقاء قوة صغيرة بعد نهاية هذا العام لتدريب ومساعدة القوات الأفغانية. لكن، الآن، يقول الناتو إن رفض الرئيس كرزاي توقيع اتفاق أمني مع الولايات المتحدة يمكن أن يجعل الناتو يسحب كل قواته بنهاية العام. وأخيرا، قال راسموسن، رئيس الناتو: «اتفقنا على أن هناك حاجة للتخطيط لكل النتائج المحتملة بما في ذلك احتمال ألا نتمكن من الانتشار في أفغانستان بعد عام 2014». وأضاف «ليست هذه هي النتيجة التي نرى أنها في صالح الشعب الأفغاني. ومع هذا، قد تكون هذه هي النتيجة المؤسفة إذا لم يجر التوصل إلى اتفاق أمني في الوقت المناسب». قال ذلك بعد أن طلب الرئيس باراك أوباما من وزارة الدفاع (البنتاغون) الاستعداد لاحتمال عدم بقاء أي جنود أميركيين في أفغانستان بسبب رفض كرزاي التوقيع على الاتفاق الأمني. وحسب الكتاب، وصل عدد قوات الناتو في أفغانستان إلى أكثر من مائة ألف جندي، منهم ما بين النصف والثلث أميركيون (حسب سياسات الرئيسين جورج بوش الابن وأوباما). ماذا بعد الناتو؟ يقول الكتاب إن مشاكل وحروبا كثيرة ستحدث. لكن، لن تكون حربا دولية مثل التي قادها الناتو. ليس ذلك فحسب، بل ستعود مشاكل أفغانستان إلى دول الجوار وإلى العالم البعيد، خاصة مشكلة المخدرات (كانت قد اختفت تقريبا في عهد طالبان). ليس ذلك جديدا، لأن مسؤولين أميركيين قدموا أخيرا تقييمات قاسية لفشل الجهود الغربية في مكافحة المخدرات. ومن المفارقات أن روسيا الآن تحمل الناتو مسؤولية النمو العملاق لإنتاج المخدرات في أفغانستان (وتهريبها إلى روسيا وغيرها). وتنبأ الكتاب بأن الفوضى ستعم أفغانستان بسرعة إذا لم توقع الأطراف المعنية، خاصة الناتو وحكومة أفغانستان، على معاهد واضحة ومحددة. وفي أجزاء نظرية من الكتاب إجابات عن أسئلة، مثل: ما هو مدى اشتراك دول الناتو في أفغانستان على ضوء ما لحق بها من أذى من أفغانستان؟ وتوضح خريطة الآتي: أولا: بسبب هجمات عام 2001 على الولايات المتحدة، قادت الولايات المتحدة الحرب. ثانيا: رغم أن أستراليا ونيوزيلندا ليستا عضوين في الحلف، اشتركتا في عملياته في أفغانستان. ثالثا: تعرضت تركيا وإسبانيا لعمليات إرهابية، لكن لم يكن اشتراكهما كبيرا. ويركز الكتاب على «رياليزم» (الواقعية) في دراسة اشتراك كل دولة في حرب أفغانستان، وذلك لأن الهدف لم يكن «نشر الديمقراطية» كما كان في حرب العراق، ولم يكن وضع حد لمشاكل داخلية، كما كان في يوغوسلافيا، ولم يكن القضاء على حكم ديكتاتوري، كما كان في ليبيا.. كان الهدف «واقعيا» بسبب الخطر الذي وقع على دول الحلف، مباشر في حالة الولايات المتحدة، وغير مباشر في حالات أخرى. لكن، بسبب تعدد درجات الخطر، وبسبب التيارات المختلفة في ظل الديمقراطية الأوروبية، ظهرت تفسيرات كثيرة لهذه «الواقعية»، أو تؤثر عليها: أولا: القيم الأخلاقية لدول تنفر أساسا من الحرب. ثانيا: مناورات حزبية داخلية لإيقاع حزب لآخر. ثالثا: منافسات حول القيادة في أفغانستان. رابعا: أنانية في ابتعاد قوات دول عن الأماكن الخطرة. خامسا: اختلافات في آراء شعوب الناتو. مثلا، يوضح جدول مدى تأييد تدخل الناتو في عام 2008 (بعد سبع سنوات من الحرب): ستون في المائة من الأميركيين (أكثر الذين تأثروا). خمسون في المائة من الدنماركيين والهولنديين والنرويجيين (خوف دول الشمال من متطرفي الشرق). أربعون في المائة وسط الفرنسيين والبريطانيين (تردد دول الاستعمار العريقة). عشرون في المائة وسط الأتراك (مسلمون). على أي حال، أكد الكتاب حقيقة أن آراء الشعوب تميل نحو معارضة التدخل في دول أجنبية كلما زادت تكاليف هذا التدخل. وظل تدخل الناتو في أفغانستان يسبب كثيرا من الخسائر في الأموال، والأرواح، والسمعة (سمعة حكومات الناتو وسط شعوبها)، سنة بعد سنة.

جسر من الخيال إلى التاريخ! جسر من الخيال إلى التاريخ!

0
0
جاءت القراءة قبل الكتابة، بل وقبل كل شيء، فهي المبتدأ، وبعدها يأتي كل شيء. رحلتي مع القراءة بدأت مبكرا، فكنت وأنا في التاسعة من عمري أقرأ الصحف، وأجمع المعلومات عن أشياء تتجاوز كثيرا عقل طفل. وكنت أقرأ ثم أوجه عشرات الأسئلة إلى أبي، الذي كان يجد متعة في محاولة تبسيط الإجابات على أسئلتي الكثيرة التي كانت تدور حول كلمات تتردد في الأخبار وقتها، كنت أريد أن ألم بها وأفهم ماذا تعني مثل: مؤتمر الأقطاب، الأمم المتحدة، الحرب الباردة، الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، سور الصين العظيم. بدأت رحلة المعرفة بقراءة كتب السيرة النبوية المبسطة، وكتب القصص القرآني التي كانت تكتب خصيصا للصغار. ومنذ قراءة هذه الكتب - ربما حتى يومنا هذا - والمرء لا يكف عن التساؤل عن مغزى ما تحتويه ومعناه والفلسفة العظيمة التي تكمن خلف قصصها. وجاء بعد ذلك وقت كنا ندرس فيه كتبا مهمة مثل «عبقرية عمر» و«عبقرية الصديق» و«عبقرية محمد» في المدارس الإعدادية (المتوسطة)، وكانت شديدة الثراء رغم أننا كصبية صغار، كنا نجدها صعبة من الناحية اللغوية. بعد ذلك جاء الخيال، فاتجهت إلى قراءة كل ما يقع تحت يدي من روايات عربية ومترجمة، وكنت من خلالها أحيا في التاريخ، أحلق في عوالم أخرى، وأطلع على ثقافات بعيدة عن محيطي الصغير المحدود بالمدرسة والبيت والشارع.. كانت قراءة الروايات نافذة خطيرة للإطلال على تاريخ العالم. ومنها انتقلت إلى قراءة كتب التاريخ، خصوصا القديم: الفرعوني والروماني واليوناني والصيني والأميركي أيضا، فقد كانت أميركا تحديدا، تمثل أمام أبناء جيلي تجربة فريدة، بصعودها الهائل إلى قمة العالم: حربيا وتكنولوجيا وعلميا. ومن الخيال المصور إلى الخيال الأدبي جاءت السينما. وكانت مشاهدة الأفلام أكبر دافع للعودة إلى القراءة، ليس عما أشاهده من أفلام أدمنت عليها منذ ما قبل ظهور التلفزيون في بلادنا، بل للبحث فيما يصوره الفيلم من مادة تاريخية (إسبرطة واليونان وبطولات الإلياذة والأوديسا مثلا) أو مادة حربية (تاريخ الحرب العالمية الثانية). ومن السينما أيضا انطلقت أقرأ عن الشخصيات التاريخية التي لعبت أدوارا مشهودة في تاريخ بلادها مثل الإسكندر الأكبر وصلاح الدين الأيوبي ونابليون بونابرت وأيزنهاور وستالين وتشرشل. وأحيانا كانت القراءة تسبق السينما، أي أنني كنت أقرأ أولا الرواية أو الروايات ثم أكتشف أنها تحولت إلى السينما. ومن بين أشهر الروايات التي بدأت تصدر وأنا في مرحلة الطفولة، سلسلة روايات جيمس بوند التي كتبها الإنجليزي إيان فليمنج. وقد تحولت فيما بعد إلى أفلام ناجحة، وكانت المشاهدة تدفع إلى العودة مجددا لقراءة الروايات لمعرفة ما جرى تحويره وتعديله فيها بعد أن تحولت إلى أفلام. الرحلة مع القراءة لا تنتهي. وقد أصبحت لدي منذ وقت مبكر مكتبة، بدأت أولا صغيرة ثم أصبحت الآن تضم بضعة آلاف من الكتب، ثم أضيفت إليها مكتبة إلكترونية من آلاف الكتب التي لم يكن يخطر على بالنا يوما أن نعثر عليها. إلا أن قراءة الكتاب الورقي لا تزال هي المتعة الأكبر.. والإمساك بدفتي الكتاب، متعة لا تعادلها متعة، بل إنني اعتدت أيضا منذ الصغر وحتى الآن، أن أحتفي بكل كتاب جديد أقتنيه، وكنت أحرص عليه وأشترط في حالة إقراضه لأحد الأصدقاء ألا يخط عليه أي كلمة أو علامة، بل وكنت أتشمم الكتاب الجديد وأستمتع برائحة ورقه. وكنت أتعرف على الكتاب من رائحة الورق المصنوع منه، كما كنت أستمتع برائحة الكتب القديمة التي كنت أشتريها في العصر الذهبي من على «سور الأزبكية» الشهير في القاهرة، الذي أصبح الآن، أثرا من بعد عين.. شأن أشياء كثيرة جميلة عبرت حياتنا! القراءة هي طريقنا للبحث عن المعرفة. ويا له من طريق شاق، كلما قطعنا فيه خطوة شعرنا بأنه طريق لا نهاية له، وقد قاربنا نهاية العمر وما زلنا بعد في أوله! * ناقد سينمائي مصري.

باكستانية متأرجحة بين الشرق والغرب باكستانية متأرجحة بين الشرق والغرب

0
0
في الشهر الماضي، صدر كتاب «ولاء وتحد: رحلتي في الحب والعقيدة والسياسة»، عن دار نشر «نورتون» في نيويورك. والكاتبة هي حميراء شهيد، صحافية وسياسية باكستانية. وحررت الكتاب الصحافية الأميركية كيلي هوران. قدمت الأميركية الباكستانية قصتها بقولها: «هذه قصة ملهمة لواحدة من أكثر النساء المسلمات النشطات. هذه قصة ليست فقط عن حقوق المرأة في باكستان، ولكن، أيضا، عن حقوق المرأة في الدول الإسلامية، وفي غيرها». ربما أهم ما في الكتاب هو النزاع بين الشرق والغرب في أعماق شهيد نفسها. فقد ولدت وتربت في الكويت، تقول إنه «مجتمع علماني». ثم عادت إلى وطنها باكستان «مجتمع تقليدي» كما تذكر. ثم درست دراسات عليا في الولايات المتحدة وصفته بأنه «مجتمع مفتوح جدا». وبين الشرق والغرب، قضت سنتين في كلية رادكليف للبنات، التابعة لجامعة هارفارد. ودرست، وقدمت محاضرات، عن المرأة في الدول الإسلامية عامة، وفي جنوب آسيا خاصة. وأجابت على أسئلة الأميركيين والأميركيات مثل: ما هو مدى العنف الذي تتعرض له المرأة في الدول الإسلامية؟ هل الإسلام هو السبب؟ هل السياسة هي السبب؟ هل العادات القبلية والعائلة المتوارثة هي السبب؟ مع أسئلة الأميركيين والأميركيات، ومن خلال إجاباتها على هذه الأسئلة، قالت: «زادت ثقتي في نفسي بصفتي امرأة شرقية مسلمة». وكتبت إنها، قبل أن تعرف نفسها، عرفت الإسلام الحقيقي. عرفت «أن تأثير الإسلام على حياة الشخص وعلى عقله موضوع هام، ولا يمكن التقليل من أهميته، لأن الإسلام (بالإضافة إلى العبادات) هو منهج عن الحياة، وعن الأخلاق، وعن التصرفات الشخصية، وأن الإسلام الحقيقي يختلف كثيرا عن ذلك الذي يفسر ويطبق في كثير من الدول الإسلامية». وعن تجربتها في الولايات المتحدة، قالت: «إن الأميركيين (وبقية الغربيين) لم يكونوا يعرفون عن الإسلام أي شيء. وعندما عرفوه، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، وبعد (الحرب ضد الإرهاب)، التي أعلنها الرئيس السابق بوش الابن، «عرفوه دينا عنيفا.. مع الحرب في أفغانستان والعراق، وما لحق بباكستان، يمكن القول إن شعوب هذه الدول دفعت، وتظل تدفع، ثمن سياسات حكوماتها غير الموفقة، وثمن التدخلات الأجنبية.. تظل هذه الشعوب تدفع هذا الثمن بأرواحها ودمائها». ولدت حميراء شهيد في الكويت، حيث كان والدها، عبد الحميد بهاتي، موظفا في شركة تأمينات. ومنذ صغرها، تربت على شعار جدتها: «كوني زهرة، وادع الله». وفهمت أن هذا شعار نسوي شرقي مؤثر جدا، ومعناه: «تجملي، وانتظرى الزوج». عندما كبرت، أعادها والداها إلى باكستان، لتتعلم، وربما أهم من ذلك، لتجد زوجا. وهي تقرن بين سنوات الكويت وسنوات باكستان بقولها: «في الكويت، كانت حياتي حرة.. درست في مدرسة دولية، وصادقت مسيحيين وهنودا ومسلمين. في مجتمع علماني، كنت استمتع ببلاج البحر دون مراقبة قريب. لكن، في باكستان، وحتى وسط البنجابيين المتحررين نسبيا، الذين أسميهم رومان جنوب آسيا، وضعت قيودا في يدي باسم التقاليد والعادات. ولم يسمحوا لي أن أذهب إلى البلاج دون مراقبة قريب». عندما عادت إلى باكستان من الكويت، تزوجت عدنان شهيد، وهو واحد من أشهر الصحافيين الباكستانيين، ومن عائلة صحافية عريقة (توفي بعد عشر سنوات من الزواج). وبهذا الزواج، تحولت هي إلى واحدة من الطبقة الوسطى العليا، ومن الصفوة الثقافية. وكتبت: «تزوجت عائلة صحافيين ودبلوماسيين وعسكريين وسياسيين ومشاهير.. ووجدت نفسي وجها لوجه أمام شخصيات هامة كنت أقرا عنها في الصحف». لكن، تنازعها وطنها الشرقي، في جانب، وثقافتها الغربية، في الجانب الآخر: «في البداية، وجدت ركنا منعزلا عن بقية الحياة في باكستان: كلية جامعية أدرس فيها الأدب الغربي. لكن، بعد سنوات، سئمت، وتأثرت بجو العائلة السياسي، وأغمضت عيني، وقفزت في بحر السياسة، أو، قل، في طنجرة السياسة. لكن، واجهت أول مشكلة، ليس في نشر آرائي الليبرالية الغربية، ولكن في مجرد العثور على شخص يسمعني. وبدأت أصرخ: هل هناك من يسمعني؟ … وتأكد لي أن كوني امرأة هي أم المشكلات». لكنها، رغم التقاليد الشرقية، استمرت تدرس وتدرس الأدب الغربي. وتأثرت بكتابات أدباء مثل الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، والكاتب المسرحي الآيرلندي صمويل بيكيت، والروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد. وعاشت سنوات التناقض بين آراء هؤلاء، وآراء والديها وأقاربها، فبمجرد أن أكملت الجامعة، قالوا لها: «لم يعد لك عذر، ولا بد من الزواج». ويوما، عرضا عليها صورة شاب أميركي - باكستاني، هاجر والداه إلى شيكاغو، وولد هناك. وقالت لها والدتها: «ها نحن، والداك، تزوجنا عن طريق والدينا. ولا حتى شاهدنا صورة. ولم تكن هناك صور، على أي حال». رفضت حتى وجدت الصحافي عدنان شهيد، الذي كان، أيضا، غربيا في تطلعاته. فقبل أن يطلب يدها، أرسل لها قصيدة ويليام شكسبير: «من هي سلفيا؟ هي الرائعة، الحكيمة. هي التي جمعت بين الحكمة والجمال.. » وفي أول عيد «فالنتاين» (عيد الحب) بعد زواجهما، فاجأها بأن ملأ غرفة النوم بكميات كبيرة من الورود الحمراء، على الأرض، على السرير، على الكراسي. وعندما واجهت مشكلات في الزواج، قرأت رواية دي إتش لورانس «رائحة الأقحوان» التي تقول فيها البطلة إليزابيث: «إلا عندما توفي، لم أعرف أن زوجي الذي كان قاسيا، كان أيضا إنسانا. ليس هناك أصعب من أن يركز الشخص على كونه هو الضحية». لكن، السنوات التي قضتها في الولايات المتحدة، وهجمات 11 سبتمبر عام 2001 زادت التناقضات في حياتها العملية، وفي أفكارها. وكتبت في صحيفتها «خبريات»، التي نشرت فيها أيضا صور أطفال أفغان قتلتهم القوات الأميركية في أفغانستان، عن الشعور المعادي للمسلمين في كل مكان، وخصوصا في منطقتها، حيث صارت كلمة «مسلم» رديفة لكلمة «إرهابي». وفي هذا الوقت، قررت أن تتحول من صحافية إلى سياسية. وقدمت عام 2011 إلى برلمان مقاطعة البنجاب مشروع قانون ضد اضطهاد الأزواج لزوجاتهم. فعلت ذلك بعد أخبار وصور بشعة لزوجات رش أزواجهن محروقات سائلة على وجوههن، فشوهوها. وحسب القانون الجديد، صارت هذه جريمة ضد الدولة، تحقق فيها الأجهزة الحكومة، وليس فقط مشكلة عائلية أو اجتماعية، تحلها وساطات أو تعويضات. ثم فعلت نفس الشيء لمواجهة إجبار من يغتصب امرأة على الزواج منها (دون وضع اعتبار لما يلحق بالمرأة من آثار كارثية، ومن حقيقة أنه لا بد أن يكون رجلا عنيفا). وأخيرا، تظل هذه الباكستانية الليبرالية تتأرجح بين عادات الشرق وحضارة الغرب.

لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟ لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟

0
0
ما زالت الاحتجاجات الشعبية العربية تحتاج إلى مزيد من الدراسة لمعرفة الأسباب التي أعاقت تطورها نحو بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تستجيب لمصالح الفئات الشعبية في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث ظلت المجتمعات التي حدثت فيها هذه الاحتجاجات، تعاني من نفس الإشكاليات، فسرعان ما سقطت الأنظمة الاستبدادية حتى تكشف لنا التشابه المريع بين الضحية والجلاد، فالثوار الليبيون مزقوا البلاد من خلال العودة إلى القبلية والجهوية وإشاعة العنف والإرهاب وإنهاء الاستقلال والسيادة الوطنية، بوقوعهم تحت الحماية الخليجية أو الغربية، والفصائل المتشددة من الثوار السوريين تقاسموا الإرهاب مع النظام الاستبدادي، بحيث أصبح القتل الوسيلة الوحيدة لفض النزاعات بين فصائل المعارضة. وفي اليمن أصبحت تنظيمات القاعدة وأخواتها «الحوثيين» والقبائل العسكرية، هي التي تتحكم بمصير البلاد والعباد. وفي مصر قفز العسكر، مرة أخرى، على خليفة الصراع المجتمعي بين «الإخوان» والفلول، حين لجأ «الإخوان» للعنف للتغطية على فشلهم في إدارة الدولة في ظل حكم مرسي، والفلول عادوا تحت ذرائع مكافحة الإرهاب، فأصبح الشعب المصري يبحث عن جمال عبد الناصر جديد. ربما الاستثناء الوحيد تونس التي حافظ فيها الشعب التونسي على وتيرة الاحتجاجات السلمية لتحقيق أهداف ثورته ولم ينجر وراء محاولات التيار المتطرف من الإسلام السياسي لفرض العنف في المجتمع. هذه الصورة القاتمة لنتائج الاحتجاجات الشعبية العربية، يحاول الباحث لطفي حاتم، إلقاء الأضواء عليها في كتابه الجديد الذي صدر أخيرا تحت عنوان «المنظومة السياسية للدولة الوطنية والاحتجاجات الشعبية». حاول حاتم في الفصل الأول توضيح العلاقة بين العامل الخارجي والصراعات الوطنية في البلدان العربية في ظل التغييرات التي حدثت في العلاقات الدولية في الفترة الأخيرة بعد انحسار سياسة القطب الواحد نتيجة التنافس بين الدول الرأسمالية لإعادة تقسيم مناطق النفوذ على الصعيد الدولي وتأثير ذلك على الدول الوطنية، متناولا أدوات دبلوماسية التدخل في الشؤون الوطنية التي أنهت مفهوم السيادة الوطنية، من خلال الترويج لمبدأ التدخل الإنساني لحماية المدنيين من القمع. ويشير الباحث إلى أن المراكز الرأسمالية الدولية تخلت عن مفهوم الشرعية الديمقراطية بتشجيعها العنف كوسيلة رئيسة لحسم النزاعات الوطنية بين السلطات الاستبدادية والقوى المعارضة، الأمر الذي كشف عن الأهداف الحقيقية لتدخل القوى الدولية، المتمثلة بتخريب الاقتصادات الوطنية وتدمير بنيتها التحتية، إضافة لتخريب التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بتشجيعها النزاعات الطائفية والمذهبية والقومية، وليس تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، كشعارات تروج لها الماكينة الضخمة لوسائل الإعلام الرأسمالية وتوابعها الوطنية. إما في الفصل الثاني، فخصصه الباحث، لدراسة أسباب الاحتجاجات الشعبية ونتائجها الفكرية والسياسية، المتمثلة باختزال الديمقراطية السياسية بشرعية انتخابية أسهمت بصعود الإسلام السياسي إلى سلطة الدولة، مشيرا إلى مسعى الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها الاحتكارية إلى توظيف الإعلام السياسي المعولم في تأجيج النزاعات الداخلية خدمة لمصالحها الاستراتيجية، مستفيدة من تيار الحماية الدولية كحامل وطني لمشروع الهيمنة الدولية على البلدان العربية. كذلك يناقش الباحث دور التيار الوطني الديمقراطي في إعادة البناء الديمقراطي للدولة الوطنية. ويرى أن النتائج الفكرية والسياسية التي تمخضت عنها الاحتجاجات تعود إلى، أولا، انحياز أغلب القوى الديمقراطية الليبرالية واليسارية إلى التوجهات الخارجية المناهضة للاستبداد بشعاراتها الديمقراطية المترابطة والليبرالية الجديدة باعتبارها انعكاسا آيديولوجيا للطور الجديد من العولمة الرأسمالية، وثانيا، إن مشاركة الخارج، أدت إلى تقرير مآل التعارضات الوطنية من خلال انحيازه إلى قوى اجتماعية متجاوبة وأهدافه الاستراتيجية المتناقضة ومصالح البلاد الوطني. في الفصل الثالث تناول الباحث تحليل الفكر السياسي المتحكم في مسار الدولة الوطنية وتأثير الآيديولوجية السياسية على بناء منظومتها السياسية، متناولا ضمن هذا الفصل تطور فكر تيار الإسلام السياسي عبر المراحل التاريخية المختلفة من تطور الدولة الوطنية، مشيرا إلى الأسباب الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صعوده، منها النزاعات الآيديولوجية بين تيارات الحركات القومية الحاكمة والأحزاب اليسارية المعارضة حول مفاهيم الوحدة العربية، الشرعية الوطنية، احتكار السلطة، مما أدى إلى ضياع الديمقراطية السياسية وسيادة العنف، الأمر الذي أسهم في تبني شرائح من الطبقة الوسطى لفكر الإسلام السياسي. كما أن تخلي النظم السياسية في الدولة الوطنية عن مهامها الاجتماعية، بعد الانتقال إلى الليبرالية والسوق الحرة، أفضى إلى إفقار وتهميش كثير من الفئات الاجتماعية، إضافة إلى تعرض الطبقة الوسطى، خاصة شرائحها الدنيا للخراب الاجتماعي. وفي الظروف الراهنة ولإعطاء ملموسية لتحليله، ركز الباحث على تطور الفكر السياسي الإسلامي في الدولة العراقية، مشيرا أن انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بعد الاحتلال الأميركي، أدى إلى تغييرات في فكر الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، فالإسلام السياسي الشيعي اصطف مع إجراءات سلطة الاحتلال السياسية والاقتصادية، وبهذا المعنى شكل الاصطفاف مع سلطة الاحتلال تحولا في الفكر السياسي الشيعي، تمثل بالانتقال من محاربة قوى الاحتلال المتعمدة تاريخيا من قبل المرجعية الشيعية إلى التعاون مع الوافد الأجنبي. أما الإسلام السياسي السني فقد مثل تحالفه مع بقايا أجهزة النظام الاستبدادي المنحلة، خاصة قواه العسكرية المخابراتية، بهدف تخريب العملية السياسية والعودة للسلطة، الانتقال إلى مواقع السلفية الوافدة مع الفصائل المسلحة المناهضة للاحتلال وما نتج عن ذلك من سياسة سلفية تكفيرية تتسم بالإبادة الطائفية وتخريب البنى التحتية للدولة. وفي ختام بحثه، يقدم الباحث مجموعة من الاستنتاجات منها: 1 - كشفت الاحتجاجات الشعبية العربية عن هشاشة البنية السياسية العربية التي انهارت بمجرد انهيار المؤسسة الأمنية وكأن القمع هو الذي يحمي تماسكها الشكلي. 2 - إن لجوء القوى الوطنية المعارضة للنهج الاستبدادي للسلطات الحاكمة للعنف كوسيلة رئيسة لمكافحة الاستبداد، يوفر الظروف المناسبة لتنامي دور العامل الخارجي في حل النزاعات الوطنية، إضافة إلى انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بينما تؤدي التغيرات السلمية إلى تحولات جدية وهادئة في بنية النظم السياسية. 3 - بينت التحولات التي حدثت بعد نجاح الاحتجاجات الشعبية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، جوهر السياسية الخارجية للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي المتمثلة بالتأييد العلني لتيار الإسلام السياسي لتسلم السلطة، بسبب عدم امتلاكه رؤية وطنية لمرحلة إعادة بناء الدولة، إضافة إلى النزعة الإقصائية التي تمييز علاقة بالقوى السياسية المختلفة مع رؤيته الفكرية، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة لم تصبح معنية بتطبيق الديمقراطية الليبرالية، وهو الشعار الذي رفعته كوسيلة ضغط على البلدان التي تتخذ نهجا وطنيا مستقلا في التنمية. 4 - عدم استفادة تيار الليبراليين العرب الجُدد من دروس التجربة العراقية بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، التي كشفت عن حقيقة الموقف الأميركي من تطبيق الديمقراطية الليبرالية في البلدان العربية، عندما تخلت عن أنصارها من القوى الليبرالية العراقية، بدعمها تسلم تيار الإسلام السياسي السلطة، إضافة إلى تناسي دور قوى الاحتلال الأميركي في إعادة بناء الدولة العراقية على أسس المحاصصة الطائفية والقومية.

القراءة أعادت تشكيل عالمي القراءة أعادت تشكيل عالمي

0
0
بدأت علاقتي بالكتاب في سن مبكرة وأنا طفل صغير. كان وراءها دافع طفولي داخلي لاكتشاف الحروف، قبل أن تتحول إلى رغبة لإزجاء وقت فراغ كان متسعا في زمن لم يكن فيه للتلفزيون سطوته الراهنة وهو ما عمل على تشكيل علاقة مبكرة مع الكتاب توثقت مع مرور الوقت لتصبح ركنا أساسيا وطقسا يوميا. والدي كان صاحب الفضل في تشجيعي على القراءة وغرس حب المعرفة في نفسي فكانت أول ما اطلعت عيناي عليه هو كتب مكتبة جدي لأمي الذي كان أحد رجال الأزهر والذي لعب دورا كبيرا في اكتشافي عالم الكتاب، وجاء من بعدهما تشجيع مدرس الابتدائي الأستاذ عجمي عبد العال خلاف الذي لم أنسه أبدا فهو الذي اكتشف حبي للقراءة وراح يناقشني فيما أقرأ ويعمل على زيادة مساحة تعاملي مع مكتبة المدرسة المتواضعة. وما زلت أذكر تفاصيل قصة بعنوان «داعية سلام». كان حريصا على مناقشتي فيها بعد قراءتها وكانت مرحلة مهمة من مراحل تطور علاقتي مع الكتاب. وهو ما دفعني بعد ذلك للبحث عن الكتب واختيار ما يروق لي منها. وأذكر أن أول كتاب حرصت على اختياره للقراءة كان «ألف ليلة وليلة» وكتاب «سندباد نامة الحكيم». تحولات كثيرة طرأت على علاقتي بالكتاب في فترة العبور ما بين الطفولة والشباب. ففي مرحلة الطفولة كانت القراءة مرتهنة بما هو متاح في مكتبة المدرسة الابتدائية وكان في مجمله قصصا للناشئة. ومع مرحلة الثانوية العامة وما بعدها انفتح الباب للأعمال العالمية في الأدب الروائي تحديدا فكانت جولتي في الرواية العالمية مما ترتب عليه معرفة واسعة بالرواية العالمية في معظم بلاد العالم وأصبحت معرفتي بالرواية العالمية تتفوق على أي معرفة. وقد لعبت علاقتي بالرواية العالمية دورها الأكثر تأثيرا في اختياري التخصص الأكاديمي في الرواية في مرحلتي الماجستير «صورة الفلاح في الرواية» ونشرت بعنوان: رواية الفلاح / فلاح الرواية، والدكتوراه «المكان في السرد العربي» ونشرت بعنوان «استراتيجية المكان» فلا شيء يعادل قراءة الهواية قبل قراءة التخصص. في الأولى يتشكل وعيد بشكل أكثر انفتاحا، وفي الثانية تضيق المسارات الموجهة بفعل العمل وضروراته. رواية «تونيو كروجر» للكاتب الألماني توماس مان كتاب لا أنساه أبدا لتأثيره الكبير في أعماق نفسي حيث شعرت أن الكاتب يكتبني وأنني أتوحد بالبطل تماما. أيضا كتابات الدكتور زكي نجيب محمود وخصوصا كتاب قيم من التراث ومقالته الأهم «نمل ونحل» و«الحرافيش» لنجيب محفوظ. أما أغرب الكتب التي حرصت على اقتنائها فكان كتاب «الفلاحون» للأب هنري عيروط الذي يمثل اكتشافا مبكرا للفلاح المصري في بيئته. أكثر الكتاب الذين أتشوق لقراءة كتبهم دكتور زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ونيتشه والقاص السوري زكريا تامر والشاعر محمود درويش. وفى المرحلة الحالية أقرأ كتاب «السيف والمرآة» للكاتب السوري علي كنعان وهو كتاب من أدب الرحلات عن اليابان التي أقرأ كل ما يقع تحت يدي عنها. القراءة في الأدب تشحن الروح بما يجعلها قادرة على إعادة تشكيل العالم عبر تكوين رؤى لا تقبل البقاء في الذاكرة وإنما تسعى للتشكل على الأوراق، وهو ما يمنح الكاتب القدرة على مكاشفة العالم بالكتابة التي تمثل نوعا من الموقف من العالم والعلاج من همومك الخاصة. * أستاذ النقد الحديث ووكيل كلية دار العلوم المصرية

قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا

0
0
من زوايا متعددة، بتعدد الرواة، يتكامل المشهد في «ص.ب: 1003»، الرواية الجديدة للكاتب الإماراتي سلطان العميمي، فتتحول الرواية إلى لوحة تشكيلية تتقاطع فيها الخطوط والألوان، لتتكامل معبرة عن تقاطع الرؤى وهي تنظر إلى ما تنظر إليه من زواياها الكثيرة. على أن هذه الزوايا لا تحدد فقط مساحة الرؤية للشخصية، لكنها أيضا تحدد طابع كلامها. كلام ينقل، يصف، ويبتعد عن التأويل تاركا إياه للقارئ. ولعل «ص.ب: 1003» هي من الروايات النادرة التي يسير فيها القارئ في خط سردي يتخطى حدود عالم الشخصية، فيشعر بتفوقه عليها؛ ففي حين كانت «عليا» تنتظر وصول رد من «عيسى» على رسالتها، وهما الاثنان من هواة المراسلة وجمع الطوابع، كان القارئ قد علم من خلال «حشيد» (والد عيسى) بوفاة ابنه في حادث سير مروع. تقول عليا: «إن الأمر الذي يشغلني حاليا هو عدم وصول رد منه على رسالتي الأخيرة. هل يمكن أن تكون رسالتي قد ضلت طريقها إليه؟ أو أن رده قد ضل طريقه إلي؟ أم أن بعض ردودي جعله يتمهل في كتابة رده أو يحجم عنه؟». صور الكاتب حال عليا وهي تكذب سمعها، فتقول إن رسالته قد سقطت عند الباب دون صوت، فتذهب لتتأكد بعينيها، لتكتشف أن الذي سقط كان أملا زائفا تثيره أحيانا رسائل الخدمات السكنية لشقتها! عشرات الأسئلة تتنازعها، وكل الاحتمالات والظنون تتراقص في ذهنها، الجيد منها وغير الجيد، ظنون الخير وظنون السوء، وظن يقع في منطقة وسطى. أما القارئ، فكان قد تخطى هذا الغموض، وبات منشغلا بمعرفة القرار الذي سيتخذه «يوسف». هل سينتحل شخصية «عيسى» المتوفى ويراسل عليا؟ تبدأ الرواية بتشويق القارئ لمعرفة حقيقة «عليا» عندما تقول في الصفحة الأولى: «هل عرف شيئا عني؟ عن حقيقتي؟». إضافة إلى التشويق، يستمتع القارئ باستعادة زمن الرسائل واللقاءات في مكتب البريد، حيث شكلت هذه المكاتب ملتقى يوميا لأحاديث ممتعة لكبار السن. كانوا يستمتعون برواية مغامراتهم التي لا تنتهي. قضية أخرى، أساسية، تطرحها الرواية، يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا، وهي الخط. الخط الذي يمنح الإنسان هوية ومزايا خاصة. وكم من دراسات أجريت حول خط الإنسان للتعرف على شخصيته ودواخل نفسه. أما الآن بفضل الطباعة، فقد ضاعت الهوية وضاع معها التفرد. لذلك، عندما لجأ «يوسف» إلى التزوير، لجأ إلى استخدام الآلة الكاتبة. فضاعت هوية الكاتب «عيسى» صاحب الخط العادي، بلا ملامح مميزة. طريقة كتابته لبعض الحروف غريب أيضا، فحرف الصاد مثلا يكتبه كحرف الحاء، ونقاط الحروف في أحيان كثيرة لا تكون في محلها في الكلمات. على عكس خط عليا الجميل الأنيق، الذي يحمل لمسات أنثوية لم تخلُ من ثقة واضحة لدى صاحبته. ترتسم على وجه القارئ ابتسامة ماكرة وهو يقرأ الخطاب على ألسنة أشياء جامدة، لم يكن يخطر بباله أن يدخل عالمها. أشياء تعبر عن نفسها وعن إحساسها، مثل مبنى البريد: «إن إحساسي بالبشر وحاجتي إليهم يفوقان كثيرا إحساسهم بي، وهم - في الغالب - لا يشعرون بأهمية الأماكن إلا بعد أن يغادروها أو تغادرهم بزوال معالمها أو تغيرها، وهذا ما يجعلني في أعينهم مجرد بناء إسمنتي يجمعهم لساعات معينة يوميا، ثم يغادرونني إلى أبنية إسمنتية أخرى يرتاحون فيها أو يمارسون حياتهم بين جدرانها». أما طابع البريد فيقول: «أنا من يعطي الظرف قيمة تسمح بنقله إلى الجهة التي يفترض أن يذهب إليها، لكني أفقد قيمتي بمجرد أن أختم بتلك الأداة. وقد يكتب لبعضنا قضاء عمره ملتصقا في طرف ظرف ما إلى وقت غير معلوم، أو قد ينتزع بعضنا من الظرف ليتم تبادلنا ومقايضتنا بطوابع أخرى، أو لنقبع في ألبوم خاص مدة من الزمن». وكذلك كيس الأسرار: «أحمل كل ما يمكنك وما لا يمكنك تخيله من أسرار بشرية من بقايا أرواح انسكبت على الورق، واختبأت في أظرف تطوف دول العالم، وانتقلت من يد إلى أخرى، لتصل في النهاية إلى يد متلهفة، وعيون تحتضن ما تناثر من مشاعر على صدر الورق». ويعكس الكاتب، على لسان «كيس الأسرار»، بعضا من ملامح المجتمع الإماراتي: «أحمل رسائل لزوجات كبار السن في المنطقة ممن أتين من دولة عربية أو آسيوية برفقة زوج يريد إثبات قدرته على مقارعة الشباب في فحولتهم وقدرتهم على الإنجاب. رسائل أخرى لخادمات البيوت اللاتي أتى معظمهن من الهند وسري لانكا والفلبين. رسائل البائعين وبعض أصحاب المحلات من الهند وبنغلاديش، رسائل المعلمين من مختلف الدول العربية كمصر والأردن وسوريا والسودان... أنا كيس الأسرار الأكثر احتضانا لها في هذا العالم، والأكثر جهلا بها في الوقت ذاته». وكذلك تتحدث المكتبة عن الحياة بين رفوفها، و«معشر الأقلام»، والغرف الخالية. نتعرف، من خلالهم، على منطقة «الذيد» وأبنائها «الطيبين». إنهم بدو بسطاء، لم تغيرهم النقلة الحضارية التي شهدتها الدولة منذ اتحاد إماراتها، وتطبَّع من جاء للعمل أو الاستقرار فيها بطابعهم. وتتجلى صورة المجتمع في قضايا عدة طرحها العميمي، سواء على لسان عليا، أو «يوسف» موظف البريد الذي اشترى صندوق «عيسى» البريدي، وانتحل شخصيته، أو على لسان الشيطان! فيظهر الاختلاف في التفكير بين عليا التي تتابع دراستها في بريطانيا، ويوسف المقيم في الإمارات. الاختلافات كثيرة، ترتبط ببعض العقليات في المجتمعات العربية، التي تمارس حريتها سرا في جوانب كثيرة. فتثار مسألة «علنية السلوك الخارجي». تكتب عليا من بريطانيا: «يجب أن نعترف بأننا لسنا مجتمعا ملائكيا، ولا توجد على وجه الأرض مدينة فاضلة تخلو من الشر أو الخطأ، والمجتمعات الأخرى ليست مجتمعات شيطانية أيضا وليست وكرا للرذيلة، لكن بعضهم يركز أحيانا على جانب سيئ في مجتمع ما، وينسى كل المظاهر الإيجابية الأخرى فيه. لكن ماذا أيضا عن السلوكيات الأخرى المتعلقة بالأخلاق؟ ماذا عن الإخلاص في العمل؟ والالتزام بالمواعيد؟ والأمانة؟ والحفاظ على الممتلكات العامة؟ واحترام قوانين السير؟ وعدم الغش صناعيا وتجاريا... إلخ؟ أليس هذا ما يدعو إليه ديننا؟ لماذا صارت الأخلاق في منظور بعضنا ترتبط بالشكل الخارجي في حكمنا على الآخرين؟». أراد العميمي أن يطرح مسألة ضعف النفس البشرية وتخفيها وراء الشيطان المشهود له بأنه وراء كل شر، فأفرد له شخصية مستقلة ولسانا ينطق بأفعاله ويعظ بالبشر: «أغلب البشر يخشوننا في الظلام. كان من الأجدر أن يخافوا الظلام الذي يسكن في داخلهم. الإنسان ليس أفضل منا بشيء. ها هو (يوسف) يدخل عالم صديقه الميت ليكتشف أسراره، إنها خيانة قائمة على نوايا الخير. هكذا أقنع نفسه. وسلمى لا تختلف عن غيرها بشيء. لكنها تدعي المثالية لا أكثر، وأنا من سيهزم مثاليتها هذه... لا بد أن أستمر في العبث لنسف كل القيم التي تقوم عليها مبادئ البشر. سأثبت لكم أن المبادئ التي تتغنون بها ليل نهار قابلة للانهيار أمام مصالحكم الشخصية وأهوائكم». انهزمت عليا وكذلك يوسف؛ فبعد أن كانت تتغنى الأولى بأهمية الفكر وتفضيله على الشكل، تقول بعد رؤيتها ليوسف على افتراض أنه عيسى: «ترى لو كان وجه عيسى وسيما، هل كنت سأتخذ الموقف نفسه؟». أما يوسف فيكفي أنه خان صديقه ووظيفته في سبيل «معرفة الأنثى عن قرب» يقول بعد لقائه بها: «فتاة ضخمة الجسم جدا... وددت لو أتجه بعد خروجي من المطعم إلى المطار مباشرة، عائدا إلى (الذيد)». سقط البطلان أمام حاجز الشكل. وجاءت النهاية، أو ربما «مشروع» نهاية، عندما قرر يوسف التوقف عن المراسلة، فاعترف لعليا، وأعاد رسائلها إليها بعد أن دمغ الظرف بختم مطبوع فيه جملة «Return to sender» من دون قراءتها. لكنه قرأ خبرا منشورا في مجلة عن صدور حكم بالسجن لمدة عشر سنوات على ساعي بريد في إحدى الدول الآسيوية، اعتاد لأشهر أن يخبئ في بيته الرسائل الواردة إلى مكتب بريد القرية الذي يعمل فيه، وكشفته شكوى أهالي القرية من عدم وصول أي رسائل إليهم منذ فترة طويلة. ربما تكون هذه هي نهاية يوسف! من يدري.

«الأنظمة المارقة» تضلل الجميع.. خاصة أميركا «الأنظمة المارقة» تضلل الجميع.. خاصة أميركا

0
0
قبل بضعة أشهر كان وزير الخارجية الأميركي يشيد بدور «شركائنا الروس» في إتمام عقد «مؤتمر جنيف للسلام» الثاني بشأن سوريا. ولأنه قضى وقتا مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، أكثر مما قضاه مع أي نظير آخر، فقد روج كيري فكرة وهمية بأن روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعملان كفريق واحد في ما يخص عدد من القضايا، بما فيها الحرب الأهلية في سوريا وطموحات إيران النووية. ثم وعلى حين غرة شاهدنا روسيا تستعرض عضلاتها في أوكرانيا، متجاوزة بذلك قاعدة مقدسة تقضي بعدم تغيير الحدود الأوروبية بالقوة. لم يكن لافروف ورئيسه، الرئيس فلاديمير بوتين، ينتهكان اتفاقية هلسنكي الرمزية - الموقعة في عام 1975 - فقط، بل انتهكا مجموعة كبيرة من الاتفاقيات التي تضمن استقلال أوكرانيا وسلامة أراضيها. وخلال حرب عسكرية - سياسية خاطفة، قام بوتين بضم شبه جزيرة القرم خلال أقل من أسبوع. بعبارة أخرى، تحولت روسيا إلى دولة مارقة. لكن السؤال المهم: ما هو تعريف الدولة المارقة؟ يُعرف كتاب مايكل روبين الجديد، الذي يقوم على أبحاث مستفيضة، الدولة المارقة على أنها تلك الدولة التي تتجاهل القانون الدولي والمعايير المقبولة للسلوك وقتما وحيثما كان ذلك التجاهل يخدم أهداف سياستها. فربما تقطع الدولة المارقة وعودا على نفسها أو توقع الاتفاقيات أو تنضم إلى المنظمات الدولية، لكنها ستبقى تفكر دائما مثل «الذئب المنفرد» الذي لا يلتزم بأي قواعد أو قوانين. حتى عندما تمد الدولة المارقة يد الصداقة بمشاعر دافئة، فإنها تبقى على أهبة الاستعداد لاستخدام السكين، التي تخفيها بيدها الأخرى وراء ظهرها. يقول روبين في كتابه «الدول المارقة دائما ما تأخذ خطوات استباقية ولا تعتمد على رد الفعل. هذه الدول ببساطة لا تتقبل المعايير الدولية». وهكذا، فإنه إذا ما أردنا أن نتعامل مع تلك الدول، فإن «حصر استراتيجية التعامل معها على استخدم الأدوات الدبلوماسية المعتادة، سيؤدي إلى فشل ذريع». ويشير روبين، وهو مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، إلى أن الدول المارقة تبدو قادرة على ممارسة تصرفاتها تلك لأن الدول القادرة على كبح جماحها تستسلم لإغراء فكرة أنه يمكن التوصل لتسوية عبر انتهاج الطرق الدبلوماسية. حتى قبل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، أصر باراك أوباما على أنه يجب على الولايات المتحدة أن «تتحدث مع أعدائها». على سبيل المثال، في حالة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عرض أوباما مد «يد الصداقة» واقترح عقد اجتماع فردي مع رئيس إيران في ذلك الوقت، محمود أحمدي نجاد. وقد بدا أوباما بتصريحاته وتصرفاته تلك وكأنه يوجه اللوم ضمنيا للإدارات الأميركية، التي تعاقب على مدار ثلاثة عقود، على توتر العلاقات مع إيران. غير أن أوباما لا يبدو وحيدا في تبني فكرة أنه بإمكانه أن يكون أفضل من الذين سبقوه. يقول روبين في كتابه «لم يتخل (الرئيس الأميركي الأسبق جيمي) كارتر عن أمله في أنه ربما ينجح في التوسط لتحقيق السلام». وقد تبنى كارتر ذلك الاعتقاد لأنه كانت لديه «ثقة لا تقبل الشك في قدرته على الإقناع»، وكان يعتقد أنه «إذا كانت الدبلوماسية قد فشلت في الماضي، فإن الذنب يقع على الإدارات التي سبقته وليس على خصوم أميركا». ويوضح روبين في كتابه كيف رفضت الإدارات الأميركية المتعاقبة الاستفادة من تجارب أسلافها. ولنأخذ قضية سوريا كمثال.. ففي وقت ما من عام 1970، ولأسباب ما زالت غامضة حتى الآن، تبنت وزارة الخارجية الأميركية فكرة خاطئة تقوم على أنه لا يمكن أن تندلع حرب من دون مصر، ولا يمكن أن يجري التوصل إلى سلام من دون سوريا في الشرق الأوسط. وعليه، فقد أصبحت القمة السنوية بين الرئيس الأميركي والديكتاتور السوري، حافظ الأسد، جزءا أصيلا من طقوس الدبلوماسية الأميركية. وعلى مدار ثلاثة عقود، أصبحت دمشق الوجهة الأكثر شعبية بالنسبة لوزراء الخارجية الأميركية. فقد زار جورج شولتز دمشق ست مرات، بينما حط جيمس بيكر رحاله في سوريا مرات عدة بلغت ضعف ذلك الرقم، في حين شد وارن كريستوفر الرحال إلى دمشق ضعف رقم بيكر، إذ زار سوريا 29 مرة. غير أن المثير للاهتمام أنه لم يتوقف أحد ولو للحظة ليقيم نتائج هذا الاهتمام الطاغي الذي حظي به هذا الديكتاتور عديم القيمة. وكلما زار وزير خارجية جديد دمشق، عاد ليزعم أنه نجح في ما فشل فيه الآخرون. ويبدو قياس مدى تحقيق النجاح في «الرقص مع الشيطان» في حد ذاته ضربا من التشويش. ومن بين الادعاءات، التي يجري إطلاقها لتبرير التودد إلى الدول المارقة، يبرز الادعاء القائل بأن «المحادثات أفضل من الحرب»، وتبدو الخدعة هنا في أن ذلك الادعاء يهدف إلى اختزال جميع الخيارات إلى خيارين فقط: فإما الحديث مع العدو أو غزو أراضيه. وغالبا ما تنجح تلك الخدعة لأن الكثيرين ليس لديهم الوقت أو المعلومات الكافية ليدركوا أن الحرب ليست هي البديل الوحيد للمفاوضات العقيمة. ويدعي أولئك المتوددون إلى الدول المارقة أن المحادثات تساعد في «بناء الثقة» أو إيجاد «مؤشرات على إمكانية الشراكة في المستقبل»، كما يزعمون أنه جرى إحراز «تقدم متواضع» أو أن «حوارا بناء» يجري في الوقت الحالي وأن «إشارات مشجعة» تبدو في الأفق. وعندما لا يبدو أي من تلك المزاعم مقنعا، يخرج علينا المتوددون إلى الدول المارقة ليؤكدوا لنا أنه لولا الانخراط مع تلك الدول في محادثات لكانت الأمور أسوأ بكثير مما هي عليه الآن. تتمتع الدول المارقة عن خصومها الديمقراطيين، بمن فيهم الولايات المتحدة، بميزة مهمة، وهي أن الزعماء المارقين يمكثون في الحكم فترات أطول بكثير من نظرائهم الديمقراطيين. فالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي كان ولا يزال لاعبا محوريا في هيكل السلطة في طهران منذ عام 1979، وتعامل مع ستة رؤساء للولايات المتحدة. وكان الرئيس حسن روحاني شخصية رئيسة في الأجهزة الأمنية للخميني منذ عام 1980، قبل وقت طويل من بداية طموحات أوباما السياسية، كما كانت أسرة كيم في بيونغ يانغ المسؤولة عن مصير كوريا الشمالية لأكثر من ستة عقود. وهيمنت عائلة الأسد على الحكم في سوريا منذ عام 1970، وبوتين هو الآن في العقد الثالث له في السلطة كرئيس للوزراء و/ أو رئيس لروسيا. وتعلم الدول المارقة أن خصومها في الأنظمة الديمقراطية لا يبدون اهتماما كبيرا بالتعامل مع القضايا المعقدة. فصناع السياسة الأميركية يتولون المناصب ويتركونها، ويكتبون كتبا، ويبدأون بعد ترك مناصبهم في دوائر الحكم عملا مختلفا في مؤسسات الفكر والرأي دون رغبة في تعقيد حياتهم. ويذكر روبين عددا كبيرا من أسماء السياسيين والدبلوماسيين السابقين الذين أعادوا اكتشاف أنفسهم كصانعي سلام مستقلين. ويأتي من بين تلك الشخصيات البارزة لي هاملتون، وتوماس بيكرينغ، وزبيغنيو بريجنسكي، وبرنت سكوكروفت، وريتشارد هاس. وعلى الرغم من أنهم لا يسهمون في تكريس وهم السلام، فإنهم يساعدون الدول المارقة في كسب المزيد من الوقت لإلحاق المزيد من الأذى. ونتيجة لأن دورة الانتخابات في الولايات المتحدة لا تتزامن مع دورة الدبلوماسية، فإن أي تغيير في الإدارة و/ أو العاملين في واشنطن يعني عودة «عملية المفاوضات» إلى المربع صفر مرة أخرى. ويصبح المسؤولون المنتهية ولايتهم نقادا للحكومة القادمة زاعمين أنهم تعاملوا بشكل أفضل من الحكومة التي خلفتهم. ومن حالت أعمارهم دون بدء عمل آخر، كجون كيري وجوزيف بايدن، تراهم يفضلون الحوار، حتى وإن لم يؤد إلى نتيجة، طمعا في أن يوصفوا بصناع السلام، وربما ينتهي بهم الأمر بالحصول على جائزة نوبل للسلام. وقد كتب روبين «تتعامل النخبة في واشنطن مع الحوار مع الدول المارقة كدول ملتزمة ومتطورة. وكل من يرى أن الدول المارقة لن تتوقف ما لم تصطدم بشيء صلب يوصم بأنه أحد دعاة الحرب». يعرف صناع القرار و/ أو منفذو السياسات الأميركية أنه مهما كانت نتيجة «الحوار» مع الدول المارقة، فإن المخاطر الشخصية تكاد تكون معدومة. في المقابل فإن المتحاورين الذين يمثلون الجانب «المارق» في وضع مختلف بشكل كبير. فالهفوات قد تعني فقدان القوة، والسجن؛ والمنفى، وحتى الموت. وقد غذى دعم الحوار مع الدول المارقة صناعة استرضاء ضخمة تضم الآلاف من المسؤولين السابقين والخبراء وكتاب الرأي، وأصحاب «المسار الثاني». وتتم مكافأة «دعاة السلام» بتأشيرات لزيارة الدول المارقة والاتصال بشخصيات قوية هناك. وقد استفاد دعاة السلام، في كثير من الحالات، أيضا من صفقات تجارية مربحة والاستشارات للحصول على ربح سريع. وبمرور الوقت تحول الحوار إلى هدف في حد ذاته، لا إلى وسيلة لتحقيق غاية. وترحب الدول المارقة بالحوار لأنه يزيل التهديد بعمل عسكري أو عقوبات مؤلمة حقا ضدها. وقد مكن حوار كيري مع لافروف الروس من الحفاظ على بشار الأسد في السلطة في دمشق وإطلاق مرحلة جديدة في خطة بوتين لإحياء الإمبراطورية السوفياتية، بشكل جزئي على الأقل. وقد مكن الحوار مع ملالي إيران من مواصلة برنامجهم النووي في الوقت الذي تحول فيه أوباما إلى رئيس لجماعة ضغط لمنع الكونغرس الأميركي من فرض عقوبات جديدة. وهذه هي الطريقة التي يقيم بها حسين موسويان، مسؤول الأمن السابق لدى الخميني، نتائج جولة سابقة من المفاوضات مع القوى الغربية الأخرى والولايات المتحدة، والتي قال فيها «خلال عامين من المفاوضات حققنا تقدما أكبر بكثير (في تخصيب اليورانيوم) من كوريا الشمالية». كانت التقنية بسيطة: الاستمرار في الحوار ولكن بالاستمرار في الوقت ذاته في ما كانت تفعله! وقد كان عبد الله رمضان زاده، المتحدث باسم الرئيس السابق محمد خاتمي، أكثر تحديدا: «كانت لدينا سياسة علنية، متمثلة في المفاوضات وبناء الثقة، وسياسة سرية تتمثل في الاستمرار في متابعة أنشطتنا (النووية)». كجزء من استراتيجية الاسترضاء، تغاضت الإدارات الأميركية المتعاقبة عن الجرائم التي ترتكبها الدول المارقة ضد أميركا. فعلى سبيل المثال، منذ عام 1979 احتجزت الجمهورية الإسلامية في طهران عددا من الرهائن الأميركيين دون أن تفقد تعاطف اللوبي الاسترضائي (ولا يزال هناك خمسة رهائن أميركيين في إيران). وقد اختار الرئيس بيل كلينتون تجاهل مقتل 19 جنديا أميركيا من قبل عملاء حزب الله الإيراني في الخبر، المملكة العربية السعودية، بل واعتذر عن «الأخطاء التي ارتكبتها أمتي ضد إيران». وقد سرقت عصابة كيم في كوريا الشمالية المليارات من المساعدات الأميركية، التي يفترض أن تكون في مقابل وقف برنامجها النووي، لكنها كانت مشغولة بتوسيع ترسانتها الفتاكة. في كل الحالات، كانت الدول المارقة أو المدافعون عنها يعرفون كيفية خداع الأميركيين السذج. فهذا هو طارق رمضان، حفيد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، يقول «لا بد لي من التحدث بطريقة تلائم رغبات المستمعين لي». ولم يتوقف الأمر عند المثاليين المضللين فقط، بل وصل إلى الانتهازيين والأغبياء الذين وعظوا وتعاملوا مع المارقين. وفي بعض الأحيان، هناك مسؤولون أميركيون يتعاطفون مع الأسباب الحقيقية أو الخيالية التي اتبعها المارقون. واستشهد روبين كمثال بحالة العديد من المسؤولين في إدارة كارتر، من بينهم المحلل ريتشارد فولك وريتشارد كوتام، وعميل المخابرات غاري سيك، الذي ضلل الرئيس من أجل حماية النظام الخميني الهش آنذاك من رد فعل أميركي مؤثر. واستمر المرضى أيضا في تسريب معلومات إلى رجال الدين، وبالتالي مساعدتهم على توقع التحركات الأميركية. يقدم روبين درسا قويا لأي شخص يبدي رغبة في التعليم، وهو أن «أول ضحايا الحوار مع الدول المارقة هو الوضوح الأخلاقي».

القراءة فردوسي الأرضي القراءة فردوسي الأرضي

0
0
ما من شيء أحب إلى العاشق من حديثه عن معشوقه، والبوح بما يكنه له ويألفه عنها ويرجوه منه. وبالنسبة لي، كانت القراءة ولا تزال عشيقة لي لا أتصور ولا أتمنى أن تخلو حياتي منها حتى آخر يوم من أيام عمري. قد أستطيع تخيل حياتي دون كتابة، أما الحياة دون قراءة فأمر ليس بوسعي وليس بمقدوري أن أتخيله. القراءة بالنسبة لي حياة مضاعفة أضيف من خلالها تجارب وخبرات ومعارف الآخرين إلى تجاربي وخبراتي ومعارفي، وهي حياة تخضع لإرادتي واختياري، على عكس حياتي الواقعية التي لا يد لي في كثير من وجوهها، فأنا من أختار ما أقرأه، أو أخطط لقراءته على مدى يقصر أو يطول. وما من أحد يراقبني أو يحاسبني على أي تقصير قد ارتكبه حيال ذلك سوى نفسي. لا أبالغ إن قلت إن القراءة هي فردوسي الأرضي الذي أنعم فيه ما دمت حيا، ولا أستغرب حين تخيل خورخي لويس بورخس الفردوس على هيئة مكتبة لانهائية الحدود. لا أتذكر على وجه التحديد متى كانت بدايتي الجادة مع القراءة واقتناء الكتب، ولكنني أتذكر بالتأكيد أن ما دفعني نحو عوالمها هي مكتبة والدي المنزلية التي كانت تزخر بكتب مختلفة ومن شتى صنوف المعرفة. وبطبيعة الحال كانت معظم، إن لم يكن كل تلك الكتب، تفوق مستواي العقلي في سنوات طفولتي الأولى، ولكن ذلك لم يمنعني من التطفل عليها، ومحاولة الاطلاع على ما يمكنني الخوض فيه منها. أتذكر من ذلك مثلا دواوين الشاعر اللبناني إيليا أبي ماضي «تبر وتراب» و«الجداول» و«الخمائل». لم يكن حبي خالصا للكتب حينها، فقد كان ثمة حب آخر ينازعه ويطغى عليه، وهو حبي للكرة التي كنت لا أتخيل لي مستقبلا بعيدا عنها وعن عوالمها. ولكن الأمور آلت إلى غير ما أشتهي أو أظن لأسباب ليس هنا المكان المناسب لذكرها. لم أكتف بما في مكتبة والدي من الكتب، أو لنقل إنني شئت أن تكون لي كتبي الخاصة بي التي أختارها أنا بنفسي، والتي أستطيع فهمها واستيعاب ما فيها، وهكذا كان، وهكذا ابتدأت رحلتي مع اقتناء الكتب. وهي رحلة لا أريد لها أن تنتهي أبدا. ولا شك أن مرحلة مهمة من مراحل ومحطات رحلتي مع الكتاب تتمثل في تمكني من القراءة باللغة الإنجليزية التي كان دافعي الأساس لتعلمها هو الاطلاع على الأدب المكتوب بها أو باللغات المترجمة إليها. أعيش محاطا بالكتب حيثما كنت وحيثما حللت: في البيت، وفي المكتب، وفي السيارة، وأحس أن الكتب هي ما يمنحني الشعور بالتوازن والاطمئنان والاستقرار الذهني والنفسي. وإن اضطررت لأي سبب قاهر للابتعاد عنها لفترة قصيرة، فسأكون حينها في أسوأ حالاتي المزاجية حتما. ولفرط ولعي بالكتب، ينتابني شعور دائم بالذنب حين أنظر إلى كتاب في مكتبتي لم أقرأه بعد، ولا أستطيع مغالبة الإحساس بالحسرة حين أكون في مكتبة تضم كما هائلا من الكتب لأنني لن أستطيع أن أقرأها كلها، أعني ما يستحق القراءة منها بالطبع. وحتى وقت قريب كنت كائنا ورقيا مخلصا للورق ورائحة الحبر، ولكنني اكتشفت مؤخرا لذة القراءة عبر الأجهزة اللوحية، ووجدت في ذلك لذة ومتعة وجانبا عمليا كان حريا بمثلي ألا يهمله ويظل نائيا بنفسه عنه. (*) كاتب وشاعر ومترجم سعودي. له مجموعتان شعريتان: «لي ما أشاء» 2008، «ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد» 2013 وكتاب مترجم، «خزانة الشعر السنسكريتي» 2012 عن مشروع كلمة.

جيل السبعينات في الرواية المصرية جيل السبعينات في الرواية المصرية

0
0
يختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» وتجلياتها فنيا، على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل. يقدم الناقد الدكتور يسري عبد الله في كتابه «جيل السبعينات في الرواية المصرية - إشكاليات الواقع وجماليات السرد»، شهادة مهمة وضافية، حول واقع الخطاب الروائي في واحدة من أهم الحقب التي شهدتها مصر على مدار تاريخها الأدبي المعاصر، وأفرزت في عباءة تحولاتها السياسية والاجتماعية الحادة موجتين إبداعيتين تبلورتا بشكل أساسي، في الشعر والكتابة السردية، ولا يزال تأثيرهما ممتدا في الحياة الأدبية حتى الآن. يرصد الكتاب أبعاد هذه التحولات، ويضعها على محور ثنائية «وعي النص ووعي الواقع»، ويحلل مدى التأثير والتأثر بين الوعيين، وطبيعة المسافة بينهما، في لعبة السرد وخيوطها الفنية المتشعبة، وأيضا في لعبة الواقع المأزوم والمحاصر بين سندان هزيمة عسكرية قاصمة في حرب 67، ومطرقة حلم قومي تداعت ملامحه وانفرط عقده الناصري، ووصل إلى ذروة انكساره بتوقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، كما شهدت مظاهرات الطلبة في عام 1968 التي تعد من أعنف المواجهات مع النظام في تلك الفترة. تتشكل هذه الشهادة النقدية عبر أربعة فصول يضمها الكتاب الذي يقع في 250 صفحة، وصدر حديثا عن «دار أوراق للنشر» بالقاهرة. ويمهد الكاتب لرؤيته النقدية بالتوقف حول مفهوم «الجيل»، لافتا إلى أن فكرة الجيل تنمو عبر تغير نوعي وكيفي، يضيف إلى شكل وطرائق الكتابة، وليس عبر تراتب كمي، يتعامل مع الزمن من منظور حسابي محض. أيضا يركز الكاتب في هذا السياق على «بنية المساءلة»، باعتبارها خصيصة إبداعية، ومن منطلق أن كل نص يطرح أسئلته الخاصة، كما يناقش فكرة الاغتراب بحقولها الدلالية والفلسفية المتعددة، وعلاقتها بالرواية، في إطار بنية المساءلة نفسها التي تعد المعول النقدي الأساسي في الكتاب، ففي فضائها تتجاور وتتقاطع مساءلة الذات المبدعة ومساءلة الواقع، وكيف من خلال هذا التشابك بينهما يمكن النظر إلى مفهوم الاغتراب نفسه، باعتباره أحد سمات الجوهر الإنساني، ثم كيف يتحول إلى مقوم للسرد، وبؤرة للصراع في الكثير من الأعمال الروائية السبعينية، التي اعتمد عليها الكتاب كساحة للتطبيق النقدي واختبار الكثير من المفاهيم والرؤى النظرية. ومنها أعمال للكتاب: إبراهيم عبد المجيد، فتحي إمبابي، محمود الورداني، محمد المنسي قنديل، سلوى بكر، يوسف أبو رية، نعمات البحيري، رضا البهات، محمد عبد السلام العمري، وهالة البدري. وخلال فصول الكتاب تتضافر هذه المحاور النقدية في سياق دؤوب من التقليب والنبش لرصد واحتواء الملامح الفنية والمركزات الفكرية بمرجعياتها وحمولاتها الدلالية المتباينة، سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي، أو على المستوى النفسي والثقافي، أيضا في إطار جدلية الأنا والمجموع، وما ينضوي تحتها من إخفاقات إنسانية، في العلاقة بين الفرد والمجتمع من ناحية، وفي علاقات الذات المبدعة (الساردة) بموضوع الكتابة.. ففي إطار مساءلة الذات، يراجع المؤلف روايات «أشجار قليلة عند المنحنى» للكاتبة الراحلة نعمات البحيري، و«ليس الآن» للكاتب هالة البدري، و«بيت النار» للكاتب محمود الورداني. في الفصل الأول يقدم الكتاب قراءة نقدية لافتة وعميقة لهذه الروايات، فغربة الذات في رواية نعمات البحيري، بظلالها المكانية والروحية، تتضافر مع غربة أخرى لذات متورطة ومخدوعة، ومفتتة في ذوات كثيرة، كما في رواية هالة البدري، ويتقاطع هذا مع ذات تبدو مقصاة ومقموعة ومحاصرة تحت وطأة تحولات الظرف السياسي والاجتماعي والثقافي التي سادت الواقع المصري، في فترة السبعينات، خاصة عقب الهزيمة في حرب 1967. ويختبر يسري عبد الله تحولات فكرة «مساءلة الذات» في أعمال أخرى لهؤلاء الكتاب، كما يرصد تجلياتها فنيا على مستوى بنية السرد، والتعامل مع الأسطورة والفانتازيا، موضحا كيف تتحول المساءلة نفسها من هاجس يطارد الذات إلى فعل مقاومة يقوي الذات ويمنحها إرادة البحث عن وعاء بديل، يحتويها ويضعها في سياق صحيح، ليس فقط مع الإناء نفسه بل مع الوطن والعالم والحياة. ويرصد الكتاب في الفصل الثاني تجليات «الآخر» في النصي الروائي السبعيني، ويوضح طبيعة الآخر، في إطار علاقة النفي والإثبات التي تربط الأنا بهذه التجليات. ويتوقف المؤلف عند منحنيين مركزيين، يرى أنهما يشكلان سمات وملامح الآخر، ويهيمنان على طبيعة اشتباك النص الروائي معه. المنحنى الأول، وهو ما ينعكس على مرايا السرد في روايتي «بيع نفس بشرية» للكاتب محمد المنسي قنديل، و«مأوى الروح» للكاتب محمد عبد السلام العمري، حيث يظل البطل سجين الغربة في أحد البلدان النفطية، تحت وطأة الضرورة والظروف الاجتماعية القاهرة، وفي ظلال سيكولوجية، مضنية؛ أحيانا تقترن فيها الغربة بالخطيئة. لكن الغربة هنا - حسبما يشير المؤلف - تظل فعلا عارضا ومؤقتا، يمكن التعايش معه خاصة داخل كتلة بشرية متنوعة، لا تقف على القدر نفسه من التضاد مع الأنا. وهو ما يرصده من منظور آخر في رواية «مأوى الروح»، حيث تتحول الغربة إلى مأزق وجود. في المقابل يومض البحث عن مأوى للروح، ليس كحيز أو مساحة للاحتواء، وإنما كنبع دائم للارتواء، تتوحد وتنصهر فيه تعارضات الجسد والروح، وأيضا تعارضات الأنا والآخر. أو محاولة إثبات الوجود، والبحث عن هوية خاصة في إطار ثنائية الأنا (الذكوري) مقابل (الأنا الأنثوي)، كما تتجلى في رواية «يوميات امرأة مشعة» للكاتبة نعمات البحيري. ويناقش الكتاب في فصله الثالث مفهوم الواقع وعلاقته بالأدب من زوايا متعددة، من حيث الواقع كما هو ماثل بشكله المادي المباشر، وكما ينبغي له أن يكون، وعلى أي كيفية يتجسد في النص الروائي السبعيني، من زاوية عين الكاتب السارد، وتنوع تكنيكاته السردية، ورؤاها الجمالية. ويراجع المؤلف بدقة فنية وتمحيص نقدي متنوع منظوره النقدي على نصوص روائية مهمة للكتاب: محمود الورداني، رضا البهات، إبراهيم عبد المجيد، يوسف أبو رية، فتحي إمبابي.. ويتحفظ المؤلف على التعاطي النقدي الشائع لـ«الواقع» كمفهوم نقدي واضح ودارج، مشيرا إلى أنه مفهوم غامض، أو يتسم بالغموض خاصة في تركيبة مجتمعاتنا التي تنضوي تحت مظلة العالم النامي. ويلفت المؤلف إلى أن معظم كتاب الرواية السبعينية فطنوا إلى هذا، فتعاملوا مع ظلال الواقع، لكي تتوافر أمامهم مساحة حية لفهمه وإعادة قراءته ومساءلته ومحاكمته، في إطار التحولات السياسية والثقافية التي حدثت في السبعينات وما بعدها. وهي تحولات لمسوها وعاشوها وانخرطوا فيها كمبدعين، ومواطنين بسطاء. ويرصد الفصل الرابع في الكتاب علاقة الروائي بالتاريخي أو ما يسمى بالرواية التاريخي، وكيف تستثمر هذه العلاقة جماليا في النص الروائي، وهل هي علاقة «ماضوية» مشدودة للماضي أكثر على حساب الراهن، بحكم أن الأول هو الفاعل السابق على لحظة راهنة لاحقة لا تتشكل بمعزل عنه، حتى لو اتخذت من القطعية المعرفية سبيلا لذلك. ويختبر المؤلف مقاربته النقدية هذه بتطبيقات لافتة على روايات: «أوان القطاف» للكاتب محمود الورداني، و«نهر السماء» لفتحي إمبابي، و«البشموري» للكاتبة سلوى بكر. ويؤكد المؤلف أن الروايات الثلاث تتميز بحضور متنوع للتاريخ، يتراوح ما بين الكثافة والخفة وفي حركة محمومة بالجدل، يتناوب إيقاعها بين المتن والهامش، وفي علاقة تبادلية وضدية معا.

براءة العراق الملكي من ضياع فلسطين براءة العراق الملكي من ضياع فلسطين

0
0
يسعى كتاب «العراق الملكي وقضية فلسطين 1914-1958» للدكتور أحمد باش أعيان الذي صدر أخيرا عن دار الحكمة بلندن في 1006 صفحات من القطع الكبير، لإجلاء الصورة التي شابها الكثير من الجدل (بحسب المؤلف) في ما يتعلق بمواقف وسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة خلال العهد الملكي من قضية فلسطين. سواء كان هذا الجدال أثناء فترة العهد الملكي (1921 - 1958)، أو منذ سقوطه كنظام حكم يوم 14 يوليو (تموز) 1958م وحتى اليوم. مؤلف الكتاب هو أحمد برهان الدين باش أعيان، ابن أحد رجال العهد الملكي في العراق. وكان قد انتقل مع والده وعائلته إلى السعودية أواخر عام 1963، حين عمل والده (صاحب السيرة) كمستشار قانوني لدى حكومتها حتى وفاته في أواخر عام 1975، واكتسب المؤلف الجنسية السعودية، وعمل في شركة «أرامكو السعودية» في الظهران منذ عام 1984 حتى تقاعده عام 2010. يرى المؤلف أن اهتمام العراقيين بقضية فلسطين ازداد منذ حصول العراق على استقلاله، «علما أن العراق كان لا يزال دولة ناشئة وضعيفة من كل الأوجه، ومحكوما بتسلط نفوذ بريطانيا». وقد تصاعدت النشاطات الشعبية والرسمية في العراق للتصدي للمشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين خلال الفترة بين عامي 1932 و1948، إذ بذل العراقيون، حكومة وشعبا، جهودا حثيثة لمقاومة هذا المشروع على كل الأصعدة.. الشعبية، والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، ضمن حدود إمكاناتهم. * دولة نوري السعيد يتحدث المؤلف عن فكرة طرأت على نوري السعيد (1888-1958) الذي تولى رئاسة الوزراء في العهد الملكي 14 مرة، وذلك حين فشل في منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ورأى أن تلك الفكرة «من شأنها أن تحول دون قيام دولة يهودية في فلسطين أو طرد سكانها العرب الأصليين منها، وفي الوقت نفسه ترضي جميع الأطراف.. العربية والبريطانية والصهيونية». وكانت فكرته تتمحور حول إقامة دولة عربية مستقلة تشمل بلاد الشام كلها، بما فيها فلسطين (أي ما يسمى بـ«الهلال الخصيب» أو «سوريا الكبرى»)، وأن «يكون لليهود فيها مكان كمواطنين لهم حقوقهم الكاملة». يقول المؤلف عن هذه الفكرة: «بعد اعتراضات عربية وبريطانية على الفكرة، تمكن نوري من التوصل إلى صيغة ترضي جميع العرب، وفي مقدمتهم القادة الفلسطينيون، والسلطات البريطانية في فلسطين والشرق الأوسط. ولكن المشروع ما لبث أن أحبط من قبل الصهيونية، سواء مباشرة، أو عن طريق ممثليها في فلسطين». لكن الدعم العراقي العسكري والاقتصادي للقضية الفلسطينية بقي، على الرغم من أنه كان «في معظم الأحيان متواضعا ومحدودا جدا خلال هذه الفترة». وقد كان من شأن فشل معاهدة بورتسموث في مطلع عام 1948 أن يتسبب في تقليص فرص تسليح وتدريب الجيش العراقي بشكل يتناسب مع حجم ونوعية الخطر الإرهابي والعسكري الصهيوني في فلسطين. * اليهود العراقيون يتوقف المؤلف عند قضية اليهود العراقيين، فرغم انقلاب بكر صدقي (1936-1937) وحركة رشيد عالي الكيلاني (1941م)، اللذين تعرضا بشكل أو بآخر لليهود العراقيين، فإن وضع الجالية اليهودية في العراق طيلة الفترة بين عام الاستقلال 1932 وحتى بعد تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948، بل وإلى سقوط النظام الملكي عام 1958، بقي مستقرا ومزدهرا، من كل النواحي.. الدينية والاقتصادية والتعليمية والثقافية. ويلاحظ كذلك أن «اليهود العراقيين بصورة عامة، عزفوا عن التورط في السياسة، مع بعض الاستثناءات القليلة، إلا أن حضورهم الإعلامي والأدبي والثقافي كان ملموسا». على صعيد الأحزاب السياسية كان لليهود وجود في الحزب الشيوعي العراقي وذلك بعد تأسيسه رسميا ببضع سنوات. وبدأ اليهود العراقيون في تبوء مناصب إدارية في الحزب منذ أواسط عقد الأربعينات من القرن العشرين، ليصل بعضهم إلى أعلى المراكز فيه. لكن الأمور بدأت تتغير بشكل مثير وسريع بعد تأسيس إسرائيل عام 1948، «ذلك أن النشاط الصهيوني الإرهابي ضد اليهود العراقيين في داخل العراق لإرعابهم وإرغامهم على ترك العراق والهجرة إلى فلسطين، تصاعدت وتيرته وتضخمت شراسته وقسوته ضد اليهود العراقيين أنفسهم منذ عام 1948، حتى نجحت الصهيونية في نهاية المطاف في تهجير معظم اليهود العراقيين بحلول عام 1953». * الخطر الشيوعي في تلك الفترة، استجاب نوري السعيد لدعوة الولايات المتحدة الأميركية لتشكيل تحالف عراقي - تركي - إيراني - باكستاني تنضم إليه لاحقا دول عربية أخرى، هدفه التصدي للمد الشيوعي الذي كان هاجس العالم الغربي وكل الدول والمجتمعات والمؤسسات المحافظة واليمينية في سائر أنحاء العالم منذ قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. من هنا جاءت فكرة ميثاق بغداد، الذي اشتهر عرفا في الإعلام العربي بـ«حلف بغداد»، والذي انضمت له بريطانيا، بعد تركيا وإيران وباكستان، ولم تنضم له الولايات المتحدة ولكنها ظلت الراعية والداعمة والضامنة له. * معلومات مغلوطة يرى المؤلف أن إسرائيل استمرت في حربها ضد العراق (إعلاميا، وسياسيا، وإرهابا داخليا)، بل إنه يتحدث عن أصابع إسرائيلية وراء تغيير النظام الملكي بأكمله، بقوله: «لقد تضافرت جهود الحركة الصهيونية والتنظيمات الشيوعية (وربما أيضا الحكومة البريطانية في نهاية المطاف)، لشن كل هذه الحروب، فنجحت في نهاية المطاف في إفشال ميثاق بغداد، وتهجير اليهود العراقيين، وقلب نظام الحكم الملكي». ويرى الباحث إلى درجة الجزم أن «معظم الرعيل الأول من رجال الدولة العراقية الناشئة (1921-1958) كانوا في الواقع هم وأسرهم من أشد المخلصين، ماديا ومعنويا، للقضية الفلسطينية». لكن النقطة الأبرز في هذه الدراسة ما خلص له البحث، وهو استنتاج ذو دلالة لكونه يقلب المسلمات المتداولة شعبيا وشبه رسمي في أدبيات ومجالس العامة والخاصة في العراق وخارجه، عن تهاون أو تخاذل حكومات العهد الملكي في العراق تجاه القضية الفلسطينية. يقول عن ذلك: «الحقيقة التي اتضحت من خلال هذه الدراسة هي أن معظم الشخصيات الرئيسة في العراق خلال فترة العهد الملكي كانت شخصيات مستقلة، لها مبادئها القومية الخالصة.. وأن معظم الانطباعات التي ترسخت في الفولكلور الشعبي وشبه الرسمي السياسي العراقي، وفي بعض الدول العربية الأخرى، عن طبيعة العلاقة بين شخصيات وحكومات العهد الملكي في العراق والنظام الملكي نفسه ككل من جهة، وبين بريطانيا والمعسكر الغربي من جهة أخرى، كانت نتيجة معلومات مشوهة وأخبار مغلوطة، كما أنها انطباعات بنيت على فرضيات باطلة منطقيا». أما منشأ هذه المغالطات والشائعات التي يتحدث عنها الكتاب، فيعيد المؤلف القسط الأكبر منها إلى مصدرين رئيسين، وهما الحزب الشيوعي العراقي، والرئيس المصري جمال عبد الناصر وأجهزته الإعلامية وأنصاره في بعض الدول العربية الأخرى، مثل العراق وسوريا (الكتاب، ص 946). * لماذا فشل العراق؟ أما لماذا فشل العراق، سواء عبر مؤسساته الشعبية أو الحزبية أو السياسية أو العسكرية، في خدمة القضية الفلسطينية؟ فيجيب المؤلف عن هذا السؤال عبر مجموعة من النقاط، أهمها: الضعف والتمزق العام في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك الاحتلال والاستعمار البريطاني للعراق منذ عام 1914 وحتى قيام الدولة العراقية كمملكة، وإن كان برعاية بريطانية، وذلك عام 1921، وهي في الحقيقة استعمار استمر 11 سنة أخرى، ولو بشكل غير مباشر وأقل ظهورا من ذي قبل، أي حتى عام 1932 عندما أصبح العراق عضوا كامل الأهلية في عصبة الأمم. والسبب الثالث هو الصهيونية العالمية، والرابع هو الحزب الشيوعي العراقي «الذي كانت بعض العناصر القيادية العليا فيه إما يهودية أو متعاطفة مع الصهيونية»، حسب الكاتب. والسبب الخامس هو ظهور التيار القومي المتطرف. وفي هذا السياق، يضع المؤلف اللوم على شخصيات فلسطينية بينها مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، الذي نفي للعراق في مطلع عام 1939، والذي لعب، استنادا إلى الكتاب، «دورا لولبيا في دفع وجهة النظر المضادة لسياسة الحكومة العراقية، بمساهمته النشطة في الدعوة إلى التطرف القومي بين الشباب والمثقفين العراقيين، وللانحياز إلى جانب معسكر المحور (ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية)، كلية في السنين الأولى من الحرب العالمية الثانية» (الكتاب، ص 955 – 956). كذلك يذكر من الأسباب الأخرى لفشل العراق في ما يخص القضية الفلسطينية، تعنت القيادات الفلسطينية أمام الحلول العملية التي طرحت أمامها. لهذه الأسباب، يقول المؤلف: «فإن كل دارس للتاريخ السياسي للعراق الملكي، والمتتبع، بالدقة المطلوبة، لتسلسل الأحداث وترابطها، لا يسعه إلا أن يستنتج أن سياسات معظم الحكومات العراقية في العهد الملكي تجاه فلسطين كانت محكوما عليها بالفشل».

من «الجريمة والعقاب» إلى «رجل الدولة والإصلاح» من «الجريمة والعقاب» إلى «رجل الدولة والإصلاح»

0
0
تبدأ رحلتي مع الكتاب بأول كتاب وقع بين يدي. كان ترجمة تجارية ملخصة للكاتب الروسي تيودور دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» وكان هدية قدمها لي مدرس اللغة العربية، في المرحلة المتوسطة عام 1955 تشجيعا لي عن مساهمة رائدة في تحرير النشرة الحائطية المسرحية، آنذاك، وعلى ضوء «فانوس» منزلي التهمت الكتاب في ليلة واحدة، وأتذكر كيف هزتني أحداث الرواية واستدرجتني إلى عوالمها المثيرة، وكيف كنت أرتجف تحت مشاعر متضاربة من الذعر والشفقة وأنا أتابع الأهوال النفسية لراسكولينوف، بطل القصة، الذي ارتكب جريمة قتل سيدة موسرة «مرابية» تحت رغبة مرضية طاغية في تحقيق التفوق الذاتي على الآخر، وأحسب أن ثمة إسقاطا دفع بدواخلي الذاتية إلى الاتحاد بالعوالم القاتمة للرواية، بضغوط كنت أعانيها من شظف العيش والعوز والسخط، وربما الحسد، حيال أولئك الموسرين الذين يحيون خارج عوالم القاع، ويتمتعون بالنعم والبهجات. أعدت قراءة «الجريمة والعقاب» مرات ومرات، كنت أحمل الكتاب معي إلى كل مكان. أفتحه لا على التعيين. من أية صفحة. ثم أغيب في مرويات البطل المتخبط في التباساته وعذاباته، وأتحاور مع معارفه من عائلة مارميلادوف، وأدخل في جدالات مع جارته «سونيا» الطيبة بوجوب العمل على مساعدة هذا الشاب الذي يتجه إلى الانتحار. كنت، أنا نفسي، بحاجة إلى مساعدة لكي أشفى من عارض راسكولينوف، وقد استرشدت، فجأة إلى «الأيام» كتاب طه حسين الشهير لينقذني من عالم دوستويفسكي الكابوسي، وشرعت أتنقل مع «البطل» الجديد، الطفل الكفيف الذي يخوض معركة غير متكافئة لينال ما حرمته الحياة منه، النور، فيحصل عليه، أو يحصل على كنزه الثمين المتمثل بالمعرفة والتأمل والتمرد، فكنت أتمثل طه حسين في خطواته الشاقة، وإن لم أكن كفيفا. في الجامعة، في قسم اللغة العربية، وبعد عقدين من السنين، من زمن لقائي بـ«الأيام» طلب منا أستاذنا، والأديب الناقد، الراحل الدكتور علي عباس علوان، أن نكتب عن هذا «الأيام» مع سؤال: هل هو جنس من أجناس الرواية، أم من أدب المذكرات؟ وفوجئ حين ناقشته باستفاضة في فصول الكتاب الثلاث وتقصيات الكاتب في عالم «البطل» وذهبت إلى أن «الأيام» رواية تتهجى حياة كاتبها وتجاربه من زوايا مختلفة، وأتذكر أني بقيت لسنوات أحاذر الدخول في عالم تأليف الكتب وفي بالي كتاب طه حسين، من حيث متانة أسلوبه ودقة بنائه وشجاعة الأفكار التي يطرحها، في هذا الكتاب والكتب الأخرى. في مطلع أبريل (نيسان) الحالي كنت على موعد مع حفل توقيع كتابي السابع «ناظم الزهاوي.. رجل الدولة والإصلاح»، ولهذا الكتاب قصة أخرى، فلم يكن صاحب السيرة الذي توفي قبل أربعة عقود قد ترك أثرا يتحدث فيه عن نفسه، سوى مقالات وترجمات كتبها في مقتبل حياته، وانقطع عن عالم الكتابة عقدين من السنين، فكان علي أن أتقصى كنوز تجربته، كرجل دولة وإصلاح، لدى أشخاص جايلوه وعملوا معه، وكانوا ينتشرون بين دول كثيرة، وامتد بي الأمر لأربع سنوات، كنت ألتقط فيها المعلومات من أفواه الشهود المسنين الذين يتذكرون صاحبهم بصعوبة لافتة.. وكان ثمة مكتب في هايدبارك لندن ومقهى في بيروت وفيللا في الإمارات وشقة في الأردن ومنازل في بغداد وابريل مسارح للقاءاتي بأولئك الشهود. * صحافي وكاتب عراقي. من كتبه «انتباهات في التراث»، و«الهجرة والهجير» و«العراق.. عنف وديكتاتورية» و« ناظم الزهاوي.. رجل الدولة والإصلاح».

«أقاليم الخوف».. شخصيات إشكالية يدمر بعضها بعضا «أقاليم الخوف».. شخصيات إشكالية يدمر بعضها بعضا

0
0
تنطوي رواية «أقاليم الخوف» للروائية الجزائرية فضيلة الفاروق على أكثر من عتبة «Seuil» نصية تمهد للولوج إلى النسق السردي لهذه الرواية الإشكالية من جهة البطلة مارغريت في الأقل وعلاقتها بالرجال الثلاثة الذين أحبتهم تباعا ووجدت في ثالثهم محمد، الرجل المنتظر الذي تفوح منه رائحة العود والنعناع. فالجملة الاستهلالية «لا أحد يعرف الشرق كما أعرفه أنا» تصلح أن تكون عتبة مناسبة تتيح للمتلقي أن يطأ الفضاء المكاني للرواية، لكنها ليست العتبة الوحيدة في النص الروائي برمته، فحادث الهجوم الانتحاري الذي تعرضت له أسرة مارغريت بشرم الشيخ في مصر ونجت منه مارغريت وحدها يمكن أن يكون العتبة الأهم التي تضعنا في مواجهة الأحداث الدرامية والتفاصيل المتشابكة لهذه الرواية التي تخوض بجرأة نادرة في الصراعات السياسية الناجمة عن الأديان والمذاهب والطوائف وما يسفر عنها من حروب وتوترات في الشرق، مهبط الديانات السماوية والرسل، ومركز العالم الذي يستقطب الأنظار. وبما أن المواطنة الأميركية المسيحية مارغريت، المتحدرة من أصل عربي، هي الوحيدة التي نجت من الحادث الإرهابي، فلا غرابة أن تنمو لديها رغبة قوية في فهم هذا الهجوم الغريب الذي فتك بأفراد أسرتها جميعا بوصفهم أميركيين ومسيحيين، الأمر الذي يدفعها لأن تحتك بالمسلمين في أميركا. لكنها بدل أن تزيح المساحة المضببة التي تكاثفت في ذهنها، وقعت في حب إياد، وهو أستاذ جامعي لبناني مسلم، ارتبطت به وانتقلت معه إلى بيروت التي أظهرت شخصيته المزدوجة التي لا تختلف كثيرا عن غالبية الرجال المسلمين الذين يعيشون في الشرق على وجه التحديد. وبغية تأثيث النص الروائي وبنائه بناء رصينا، فقد توسعت فضيلة الفاروق في الحديث عن عائلة آل منصور التي تتألف من ستة أشخاص وهم «وهب، شهد، شمائل، إياد، جيلار ونورا»، إضافة إلى أبي وهب وأم وهب اللذين انزاح عنهما الاهتمام لينصب على أفراد هذه الأسرة اللبنانية السنية على وجه التحديد، بل إن الأضواء تكاد تسلط على ثلاث شخصيات إشكالية؛ وهي: شهد الثرية المتزوجة بالحاج عبد الله، وشمائل المقترنة برجل بسيط لا يحظى باهتمام الأسرة، وإياد الذي ارتبط بمارغريت لعدد من السنوات وحينما انتهت صلاحيته تخلت عنه وذهبت إلى رجل آخر. أما الشخصيات الثلاث الأخرى، فهي عادية وربما تكون الإشارة إلى نورا مهمة لأنها لم تتحجب بحكم عملها في شركة تجميل عالمية وزواجها بأستاذ جامعي يدرس في السوربون. تنحو الرواية منحى كلاسيكيا في بنائها، ونمو شخصياتها، وتطور أحداثها، لكنها تضج بالمفاجآت التي تصدم القارئ وتنتشله من السياقات السردية المألوفة لتضعه في عالم فانتازي مغاير يقترب كثيرا من عالم الروايات البوليسية والجاسوسية والقتل بدم بارد، هذا العالم الذي أجلته الروائية المحترفة فضيلة الفاروق إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، حيث يتكشف كل شيء ونتعرف في خاتمة المطاف على حقيقة الشخصيات التي كنا نتصورها طبيعية ومألوفة. لم تكن عودة مارغريت وإياد إلى بيروت اعتباطية، بل هي مرسومة من قبل مارغريت الصحافية التي تنشر تقاريرها بانتظام في الصحيفة التي تعمل فيها، لكنها بدأت توحي لنا بأن كتاباتها لا تستطيع أن تغير شيئا، كما أن الهوة بينها وبين زوجها إياد بدأت تتسع، خصوصا بعد أن ورثت نحو مليون دولار من أملاك والدها في الضيعة اللبنانية. وبسبب مضايقة الأقرباء لها، قررت أن تهرب من بيروت إلى لندن، لكن زوجها اقترح عليها أن يسافرا إلى ماليزيا مدة أسبوعين، فصادفت صديقها القديم «نوا» الصحافي الأميركي الأسود الذي يعمل في المناطق الساخنة التي تشتعل فيها الحروب مثل أفغانستان وباكستان وكوسوفو وغزة والعراق. وخلال خمسة أيام، وجدت مارغريت نفسها تعود إليه، لكنها أخفت هذه الخيانة الجسدية والفكرية عن زوجها إياد. وحينما اكتشفت أن أواصر الحب قد تقطعت بينها وبين إياد، طلبت منه الطلاق على أمل أن يبقيا صديقين. هل تستمر علاقتها العاطفية مع «نوا»، الصحافي المغامر الذي يذهب إلى المخاطر بقدميه، أم أن هذا الحب سينطفئ مثل انطفاء حبها لإياد، خصوصا أنها «امرأة متقلبة المزاج، متقلبة الرغبات، متقلبة القلب أيضا!» وأكثر من ذلك فهي تقع في ثنائية الحب والكراهية ولا تعرف الحد الفاصل بين الاثنين. ورغم ارتياحها من العلاقة الجديدة مع «نوا»، فإن هذه العلاقة لم تدم طويلا. فما إن تشعر بالإحباط من عدم قدرتها على تغيير العالم بواسطة مقالاتها، فإنها تتجه للعمل في المتاجرة بالمجوهرات الثمينة والماس، هذه المهنة التي لا يحبذها «نوا» فيتضاءل حبه هو الآخر ويصلا إلى طريق مسدود أيضا، حيث يذهب إلى بغداد لتغطية أحداث الحرب الكونية الدائرة في العراق، لكنه يتعرض للاختطاف من قبل جماعة مسلحة ولم يترك وراءه سوى مصوره ميتش وسائقه العراقي لؤي الذي سيلاقي حتفه في أثناء عملية الاختطاف. وبما أن مارغريت كانت بمثابة الجنة الوحيدة بالنسبة لنوا الذي يعيش وسط حروب متعددة، فقد قررت أن تذهب إلى بغداد كي تبحث عنه فتقع في الفخ وتصبح جزءا من حقل البذور الذكية، حيث يقوم الدكتور وليم حبيب شنيدر بتلقيحها، بينما تتعرف في الوقت ذاته على محمد الذي يقيس حرارتها وضغطها، لكنه لا يقبل بلقب الممرض. ورغم قسوته وفظاظته في التعامل معها حيث يحقق معها، ويصفعها غير مرة، ثم نكتشف أنه يعرف عنها كل شيء تقريبا... طلاقها من إياد، وعلاقتها المنتهية بنوا، وسفرها معه إلى بيروت وباكستان ودارفور، وأنها تنتمي إلى «منظمة النسور السوداء» وهي منظمة مشبوهة تسمى «منظمة إنعاش مشاريع نساء العالم الثالث» التي تجند النساء لمحاربة الإسلام. ورغم سوء معاملته، فقد كانت تشتهي قسوته وظلمه ورائحته، ربما بسبب مشاعرها الغامضة التي تجمع بين الحب والكراهية. وحين يبدأ بتعذيبها تتولد في داخلها مشاعر مازوخية عجيبة يختلط فيها الألم بالاستمتاع. إنه الشخص الوحيد الذي ترك أثرا على جسدها وروحها في آن معا. ورغم مشاعرها المختلطة المشوشة، فإنها تقرر في خاتمة المطاف أن محمدا سيكون الرجل الأخير الذي تمشي خلفه بعد أن أغلق ملفها وكتب عليه «العملية رقم 55». ولكن في الوقت نفسه، تقتل الناشطة الأميركية في حقوق الإنسان مارغريت نصر التي عثر عليها مقتولة في غرفتها بأحد فنادق بغداد. هكذا، يتكشف غموض شخصية مارغريت التي جندت بعد تفجير شرم الشيخ تحت غطاء منظمة نسائية تدعم مشاريع إنمائية، لكن مهمتها الحقيقية هي قمع أي بوادر للنهضة في المنطقة. وقد جندت كلا من إياد ونوا وميتش من دون أن يعرفوا. ثمة مفاجآت كثيرة في هذا النص؛ نذكر منها أن إسماعيل جاد الحق، تاجر السلاح اللبناني هو نفسه الشيح عبد الله زوج شهد الذي كان مقنعا بالورع والتقوى، وأن مارغريت هي «يتيمة حرب» وابنة بالتبني لنديم نصر الذي كفر عن ماضيه لأنه باع أطفالا كثيرين خلال سنوات الحرب الأهلية. تحتاج رواية «أقاليم الخوف» إلى طبيب نفسي وناقد معا كي يحلل لنا شخصية مارغريت من الناحية العاطفية فهي تحب وتكره، تتحمس وتفتر، وتشعر بالحاجة الدائمة للحب رغم أنها كانت متزوجة بإياد الذي اكتشفت ازدواجيته فتخلت عنه، كما أن ماضيها العاطفي ليس سويا تماما. نخلص إلى القول بأن مارغريت هي شخصية مازوخية بامتياز تستمتع بالألم واللذة معا، ولا تجد ضيرا في الاضطهاد الذي يلحق بها جراء تصرفاتها المرضية.

مالك شبل يصدر قاموسه «العاشق للإسلام» مالك شبل يصدر قاموسه «العاشق للإسلام»

0
0
«القاموس العاشق للإسلام»، ليس من عندي وإنما هو للمفكر الجزائري المعروف: مالك شبل. وهو من أشهر المثقفين العرب حاليا في فرنسا. فقد صدرت له عدة كتب لفتت الانتباه. نذكر من بينها «بيان من أجل إسلام التنوير» و«الإسلام والعقل»، و«قاموس الرموز الإسلامية»، و«القاموس الموسوعي للقرآن الكريم»، و«قاموس عاشق للجزائر». ثم هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم. إنه لشيء ممتع أن تقرأه وأنت مطل من أعلى طابق في المكتبة على باحة كاتدرائية رانس الشهيرة. تنظر إلى أسفل من علو شاهق فيسحرك المنظر. الناس تحتك مباشرة وأنت في أعلى عليين. لأول مرة تمارس ساديتك على البشرية. تتذكر نيتشه عندما كان يصعد إلى أعلى قمم الجبال في سويسرا. لا يستطيع أن يتفلسف إلا والناس تحته على بعد ستة آلاف قدم. تحتك مشهد سينمائي ولا أروع. حضارات، حضارات.. ماذا يصنع شخص متخلف مثلي هنا؟ ثم بالأخص لا يوجد حولك إلا الجمال الفتان فينشرح صدرك وتنفتح شهيتك الفلسفية على مصراعيها. في مثل هذا الجو المليء بالمشاعر المتناقضة، رحت أقلب صفحات هذا الكتاب وأستمتع به كل الاستمتاع. بإمكانك أن تنتقل من مادة إلى أخرى، ومن عنوان إلى عنوان، كأنك في بستان. فمن مادة تتحدث عن إسهام العرب في الحضارة، إلى أخرى تتحدث عن الجاحظ، وتقدم لك صورة شخصية ممتعة عنه (بورتريه). وهل هناك أمتع من الجاحظ؟ إلى مادة تتحدث عن غوته والشرق، إلى أخرى تتحدث عن ابن خلدون، أو ابن رشد، أو الخوارزمي، أو نجيب محفوظ، أو الموسيقى العربية الأندلسية، أو معنى الجهاد، أو الاجتهاد، أو الجنس عند العرب... إلخ. عشرات المواد تتوالى أمام ناظريك دون أن تكل أو تمل. وإذا ما مللت من إحداها قفزت عليها وانتقلت إلى مادة أخرى، وهكذا دواليك.. من المعلوم أن مالك شبل أخذ أهمية كبيرة على الساحة الباريسية في السنوات الأخيرة بفضل تدخلاته في وسائل الإعلام وكتبه الكثيرة المتلاحقة.. انه يبدو كمثقف حداثي وأصيل في الوقت ذاته. إنه معجب جدا بأصوله العربية الإسلامية ولا يتنكر لها أبدا رغم انغماسه في الحداثة الباريسية. كدت أقول إنه يبدو كمثقف مستنير. ولكن، خفت أن ينقضوا علي من كل الجهات فآثرت السلامة وتحاشيت هذا المصطلح الشائن الذي أصبح يثير حساسية مفرطة لدى بعض الإخوان الكرام. وأخشى ما أخشاه أن يفرغ من معناه من كثرة الاستخدام بمناسبة وبلا مناسبة كما حصل لبقية المصطلحات والشعارات العربية. أخشى أيضا أن يعتبروني مسؤولا عن ترويجه مع بعض الآخرين ويقدموني إلى حبل المشنقة! من يعلم؟ أفتح على صفحة الجاحظ فماذا أجد؟ أجد ما معناه: لقد قارنوه بكبار الكبار من أمثال فولتير لأنك لا تستطيع أن تقرأه دون أن تنفجر بالضحك. وهذه نعمة ما بعدها نعمة وموهبة لا يقدر عليها إلا المصطفون الأخيار. (الفذلكات الزائدة عن اللزوم من عندي. ولكنها موجودة ضمنيا في كلام الباحث الجزائري المرموق). لقد كان الجاحظ يمتلك إمكانات أكبر المدافعين عن حرية التفكير والتعبير، بالإضافة إلى روحه المرحة لأن كتاباته مضحكة ومسلية في غالب الأحيان. ولكن هذا لا يعني أنها ليست عميقة وجادة كل الجدية. غير أنه على طريقة فولتير كان يعرف كيف يمزج الهزل بالجد. لقد استفاد الجاحظ من جو الحرية الذي كان سائدا إبان العصر الذهبي للعباسيين، وخاصة عصر الرشيد والمأمون حيث عاش قسما كبيرا من حياته. وقد شهد بداية المجادلات الدينية للمعتزلة. وهي - كما يقول مالك شبل - فرقة مشكلة من المفكرين الأحرار في الإسلام. وكانت نصوصهم تقرأ في الخفاء وتتناقلها الأيادي بصمت. ومعلوم أنهم طالبوا بتطبيق المنهج العقلاني على كل المجالات بما فيها المجال الديني. وقد برع الجاحظ في ذلك كل البراعة. ولذلك، يمكن اعتباره أحد كبار المفكرين التنويريين في الإسلام. والواقع أنه هو ذاته كان معتزليا. ويقال بأنه هو الذي اخترع النثر العربي. ومن ثم فكلنا من أحفاده. أنتقل الآن إلى مادة بعنوان: الأصولية والتعصب الأعمى، فماذا أجد؟ يقول الباحث الجزائري بأن التعصب غير معسكره أخيرا وانتقل من جهة إلى أخرى. ففي الماضي، كان في جهة الفرنسيين ومن سواهم عندما كانت أوروبا تغط في ظلام عميق. ولذلك، اتهم مفكرو القرن التاسع عشر أولئك المسيحيين الهائجين المسعورين الذين يريدون فرض دينهم بالقوة بأنهم شوهوا رسالة المسيح الذي كان مسالما جدا إلى درجة أنه قال: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. لقد انخرطوا بكل حماسة هيجانية في محاكم تفتيش وحروب صليبية وما إلى ذلك. والغريب العجيب أنهم كانوا يقتلون الناس بالمئات والآلاف دون أن يرف لهم جفن. والأنكى من ذلك أنهم ما كانوا يشعرون بأي ذنب أو تأنيب للضمير. على العكس، كانوا يجذون الرقاب وهم في غاية السعادة والاطمئنان لأن فتاوى رجال الدين كانت تقدم لهم التغطية الكافية. وربما لولا ذلك لجنوا أو لما تجرأوا على سفك الدماء بمثل هذه السهولة. فليس من السهل أن تذبح الناس الأبرياء وتنام بعدئذ كأن شيئا لم يكن. ويرى فولتير أن هذا التعصب الأعمى عبارة عن مرض قد يصيبك كما تصيبك الجراثيم. فهل هناك بكتيريا تدعى: جرثومة التعصب الطائفي؟ وهل تنتقل بالعدوى يا ترى؟ ولكن أوروبا تخلصت من هذا الوباء بعد أن تقدمت وتحضرت واستنارت. رجعنا إلى التنوير! ألا توجد كلمة أخرى؟ أم أنك تتقصد ذلك تقصدا بنوع من الخبث والاستفزاز وربما الاستمتاع أيضا! على أي حال انتقلت الظاهرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط: أي إلى عندنا نحن بالذات. ويرى مالك شبل أن ظاهرة الأصولية ناتجة عن الفقر والظلم والاستبداد والطغيان، وبالأخص الجهل. ولكن، هناك عامل آخر لا يستهان به: ألا وهو الالتزام المطلق بالتفسير الحرفي للنص. وهذا يعني عدم الاعتراف بالتطور وتاريخية النص. فما كان سائدا قبل ألف سنة يعتقدون إمكانية تطبيقه بحذافيره من دون أي تعديل. إنهم يقدمون الحرف على الجوهر: أي جوهر النص ومقاصده العميقة. وهنا تكمن أزمة الوعي الإسلامي حاليا. أنتقل إلى موضوع آخر مختلف تماما. أفتح القاموس على اسم قيس بن الملوح المشهور باسم: مجنون ليلى. وهو أشهر عاشق في تاريخ العرب، بالإضافة إلى جميل بثينة وذي الرمة ومعبودته مي... إلخ.. ولا يقابله في الآداب العالمية إلا روميو وجولييت. فماذا يقول عنه مالك شبل يا ترى؟ إنه يصفه بالهائم على وجهه في البراري والقفار بعد أن زوجوا ليلى بشخص آخر. عندنا مثل في القرية يقول: «اللي بيعشق ما بيتزوج». لقد فقد عقله أو كاد. من هنا اسمه: مجنون ليلى. لقد أصبح يتوسد الرمال ويلتحف السماء والنجوم بعيدا عن ضجيج البشر وحساباتهم الصغيرة. وفجرا، تبلل وجهه قطرات الندى وتهب عليه ريح الصبا. لقد انصهر بعناصر الطبيعة وتحول إلى أثير. إنه أنقى شخص في الشعر العربي، أنقى من الصحراء والهواء. لقد أصبح يعاشر الوحوش والغزلان بعد أن هجر الأهل والخلان. وراح ينشد القصائد التي خلدته معبرا عن جرح لا يندمل. وهكذا، تحول إلى أسطورة الأساطير في الآداب العربية. ألست وعدتني يا قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب فها أنا تائب عن حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب أتوقف الآن عند مادة بعنوان: قبر جان جنيه. فلماذا قبر جان جنيه وليس جان جنيه بكل بساطة؟ لأن قبره في مدينة العرائش بشمال المغرب هو الذي لفت انتباه مالك شبل وجعله يهتم بهذا الكاتب المنبوذ على الأصعدة والمستويات كافة. ويبدو أن جورج بوسكيه، مدير المركز الثقافي الفرنسي في طنجة، هو الذي قاده يوما ما إلى ذلك المكان لزيارة القبر: قبر غريب لرجل غريب في بلاد غريبة، ثلاث غربات دفعة واحدة. ولكن، هل حقا كان جان جنيه شخصا غريبا في أرض المغرب الخالد؟ أمر مشكوك فيه تماما. لا أحد غريب في المغرب. من المعلوم أن الكاتب الفرنسي الشهير توفي في باريس عام 1986، ولكنه رفض رفضا قاطعا أن يدفن في كل الأراضي الفرنسية. بالمناسبة، الشيء بالشيء يذكر. عندما زرت تطوان لأول مرة مع بعض الأصدقاء الأعزاء عشت لحظات سعيدة واقعية وفوق واقعية في آن: أي لحظات سريالية. كنا نتمشى على غير هدى حتى وجدنا أنفسنا فجأة منخرطين في شارع القصر الملكي. وقد سحرني هذا الشارع بالمعنى الحرفي للكلمة وأخرجني عن طوري، ليس فقط بسبب القصر، وإنما أيضا بسبب طرازه المعماري القديم الجديد على الطريقة الإسبانية الأندلسية. تسحرك الصور والألوان والتطريزات والأصوات التي تملأ الشارع، بالإضافة إلى أشياء أخرى بهيجة يعجز قلمي عن وصفها. حقا، إن المغرب مصهر للحضارات. أحسست بأني دخلت في عالم ألف ليلة وليلة. وفجأة، تجد نفسك أمام المركز الثقافي الفرنسي: آندريه مالرو. ومن خلفه، تتراءى لك الجبال على الضفة الأخرى من الوادي، في منظر خارق يتجاوز حتى الشعر. لقد عشت لحظات وردية في ذلك الشارع وأتمنى أن أعود إليه مرة أخرى لكي أفهم السر وأعيش نفس الأحاسيس الأسطورية. وهل الحياة إلا لحظات تسرق من عمر الزمن سرقة؟ وأخيرا، سوف أختتم بهذه المادة الاستفزازية جدا عن الاستشراق. سوف أحرق أعصابكم مرة أخرى بوساطة مصطلح آخر غير التنوير. ولكن، هل هما شيئان مختلفان أم شيء واحد؟ يقول مالك شبل بلهجة معاكسة تماما للهجة إدوارد سعيد: أريد أن أقدم كل آيات الشكر والثناء للعلماء الأوروبيين الذين كرسوا حياتهم كلها لدراسة الشرق العربي أو الإسلامي. أريد أن أرفع لهم التحية لأنهم درسوا تراثنا دراسة علمية تاريخية. لقد قدموا كبرى الخدمات لتراثنا العربي الإسلامي الكبير. ولا زائد لمستزيد..
Viewing all 155 articles
Browse latest View live




Latest Images