يرصد هذا الكتاب طبيعة العلاقات الإنسانية في الفضاء الإلكتروني، ويحلل دوافعها ونوازعها المتنوعة عاطفيا واجتماعيا وثقافيا، وما تكتسبه من صفات وعادات جديدة، تبدو مغايرة للشائع والمألوف في الواقع العام، ويوضح إلى أي مدى ترتبط هذه العلاقات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي بفكرة الحرية التي لا سقف لها، وأيضا بفكرة التخفي في قناع الصورة، أو الآخر كرمز، والتي يلجأ إليها البعض أحيانا لإتاحة فرصة أكبر للتعبير الحر، والهروب الرشيق بعيدا عن أسوار الذات وقيود الواقع الشائكة، خصوصا على المستوى الشخصي والأسري. يحمل الكتاب عنوان «البعد الآخر.. الهوية والحب والجنس في عالم افتراضي». وعلى مدار نحو 250 صفحة من القطع المتوسط، نجحت مؤلفته الكاتبة شيرين فؤاد، في أن تجعل القارئ يخوض مغامرة شيقة، في عالم أصبح لصيقا به، ويشكل إحدى ضروريات حياته. وهو ما جعل الكتاب يدخل على قائمة الكتب الأكثر مبيعا في سوق النشر المصرية، وتتولى حاليا طبعته الثانية مؤسسة «الأهرام» الصحافية، بعنوان جديد هو «الحب الإلكتروني»، وكانت طبعته الأولى صدرت عن دار «إشراق» للنشر بالقاهرة، وهي دار حديثة النشأة. يستهل الكتاب فصوله الأولى بمناقشة مفهوم الفضاء الافتراضي، من منظور علمي صرف، من حيث المكان كحيز مادي، وعلاقات الجغرافيا ببعد المسافة والحجم والمسار، وكيف يختصر هذا الفضاء ويختزل كل هذه الأبعاد، فلا يبدو فضاء افتراضيا تماما، وإنما نتعايش معه، ونتفاعل مع حقائقه كامتداد لفضائنا الذاتي والعقلي والنفسي، يوفر إمكانيات ووسائل اتصال إنسانية هائلة، آمنة ومريحة إلى حد كبير، يمكن تحت مظلتها، وبوسائط بسيطة بلورة صورة وهوية افتراضية، يسهل الدخول والخروج منها وإليها في أي وقت، دونما حواجز أو عراقيل. وبالتحليل ومتابعة الوقائع والأحداث عن قرب، ومن زوايا مختلفة ترصد المؤلفة أبعاد هذه العلاقة المتشعبة في سياقاتها المباشرة والمستترة، والمتخيلة، على المستوى النفسي والثقافي والعاطفي، وتتواصل معها من منطلق أنها أحد المكتسبات المهمة، شديدة الحساسية في التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات خاصة على الإنترنت. وتوضح كيف انعكس كل هذا التحول على الفضاء الشخصي للإنسان؟ كيف اخترقه؟ ليخرج من نطاق فضائه الذاتي إلى فضاء أكثر اتساعا، لا مترامي الأبعاد، حيث العالم في قبضة يده وأنامله، لم يعد مجرد فكرة صماء، بل يمكنه بضغطة إصبع على جهاز الحاسوب، أن يتعرف على شوارده وسكناته وصراخه، وما يموج في داخله هنا وهناك، ويتخيل نفسه في قلب الأحداث، يحسها ويسمعها ويشاهدها، وكأنها تحدث على مرمى حجر منه. ولا يتعامل هذا الكتاب مع أطراف هذه العلاقة من منظور مادي محض، أو في سياق الثنائيات المعرفية المجردة، ولا يتمسح في قضايا الوجود الكبرى، كعلاقة الخير والشر، أو النور والظلام، أو الكره والحب، وإنما يتعامل معها، باعتبارها شكلا جديدا من أشكال الإرادة الإنسانية، والحلم الإنساني. فهي علاقة مفتوحة دائما على قوس البدايات والنهايات تنحل فيها العقد والفواصل السميكة في الزمن والبشر والأشياء.. وهي علاقة - بحسب الكتاب - تؤسس خطوتها في الحلم، وتتوسل به، من أجل معرفة ذاتها ومعرفة ذات الآخر، وإعادة اكتشاف الاثنين معا، على قاعدة مرنة، يصبح فيها المجهول، فقط مجرد خط وهمي معصوب العينين مؤقتا، ربما إمعانا في التمويه والتخفي، وإثارة المزيد من الدهشة والجاذبية، فوق طاولة العلاقة، التي تجابه دوما حلم النزول من أرض الفضاء الافتراضي الرخو المثير، إلى أرض الواقع الخشن، حيث الأقدام الغليظة وضغوط ومخاوف الحياة. أيضا لا ينشغل الكتاب كثيرا بمدارات الأعراف والتقاليد الاجتماعية والبحث عن مظان وحدود لـ«شرعنة العلاقة» في الفضاء الإلكتروني، فهي علاقات حرة لا ترتب مسؤولية مادية على كاهل المنخرطين فيها. بل يوضح الكتاب كيف أنها قد تصل في «غرف الدردشة» إلى آفاق شديدة الحساسية تتجاوز نطاق الألفة العاطفية، والمفاهيم العادية للصداقة، صعودا لمشارف العلاقة الجنسية، والتي قد يصل فيها التعارف الحميم إلى التعرف بالصوت والصور المتبادلة العابرة والمقيمة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، المسرح الميداني الأساس لموضوع الكتاب. وهنا يحلل الكتاب بشفافية بالغة الدقة الأطر والدوافع المتنوعة التي تهيئ وتفرز هذا النوع من العلاقة. وتلفت المؤلفة إلى خطورة تحولها إلى علاقات ضدية، تنهض كبديل، أو شكل تعويضي بالمعني النفسي، يفرض ضمنيا نوعا من المقارنة بين شريك «السايبر سكس» والشريك الفعلي في الحياة، حينئذ تتحول «ازدواجية العلاقة» بدورها إلى فعل اعتيادي، يجد فيه أطراف العلاقة في الفضاء الإلكتروني متنفسا إنسانيا وعاطفيا شديد الإغواء، بل منافسا قويا لحياة زوجية، ربما بردت وفترت، ولم يبق منها سوى هيكل اجتماعي هش يترنح على أرض الواقع. وفي المقابل يطرح الكتاب قضايا إنسانية شائكة، تقف على حافة هذا الفضاء الافتراضي البديل، تصل خطورتها إلى حد الجريمة الإنسانية المغلفة بنزق الحب وغبار حماقاته وأشواكه، ومنها على سبيل المثال، قضايا التحرش الجنسي، الخيانة الإلكترونية، الزنا الإلكتروني. ويوضح كيف تتسرب كل هذا القضايا، بتلقائية أحيانا، وكأنها تفيض عن المشهد أو ثمرة طبيعة لمداراته العاطفية، وأحيانا أخرى تبدو كاستثمار متعمد للحظات الغزل المموه باصطناع اللهفة والحنين، لاستثارة الضحية واستمالتها في اتجاه معين. ويفند الكتاب أنواعا من التحرش الجنسي، منها اللفظي والبصري، وغير المباشر أو الموجه باستخدام وسائط جنسية كالصور والألعاب الإباحية. وفي كل فصول الكتاب تقدم المؤلفة وبأسلوب شيق الفضاء الإلكتروني كحقيقة علمية خالصة، ورافدا مهم من روافد المعرفة الإنسانية، وتمهد لذلك بمناقشة كينونة هذا الفضاء في رؤى وأفكار عدد من الفلاسفة والعلماء المختصين (كانط - نيوتن - ليبنتز - آينشتاين - أندرسن)، بل تناقش - من واقع خبرتها الدراسية في علوم الحاسب الآلي - معايير الأخلاق في الفضاء الإلكتروني، بكل مفرداته، من علاقات فردية، ومنتديات ومجموعات لها أنشطة ما، أو ذات طبيعة خاصة. تبقى من أجمل الأشياء التي يتكشف عنها هذا الكتاب، هو مقاربته لخصوصية الظاهرة الإنسانية في الفضائي الإلكتروني، لافتا إلى أنها تتسم بكثافة عاطفية سريعة التحول والتصعيد، تتسم بالديناميكية وتتمتع بطبيعة جدلية خاصة، تتبلور في أشكال حديثة من التأثير والتأثر، تنعكس على منحنى العلاقات العاطفية، مدا وجذرا، صمتا وصخبا، جاذبية ونفورا.. لكن يبقى هذا الفضاء هو البيئة الأسرع، ليس فقط في تكوين الهويات الجديدة العابرة للتخوم التقليدية للهوية، وإنما أيضا لاكتشاف البعد الآخر لها، حتى على مستوى الحضور والغياب. لقد عرض الكتاب كل هذه الظواهر، وسبر أغوارها بحيادية وموضوعية تامتين. ولم يتعامل مع أطراف العلاقات المتنوعة في الفضاء الإلكتروني، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الاجتماعية والثقافية والآيدلوجية، وحتى على مستويات أعمارهم، كعينة اختبار عشوائية، وإنما تعامل معهم كحالات إنسانية، رسخ هذا الفضاء هويتها المضطربة في الواقع، ووضعها في اختبار حر أمام مرايا متعددة وحرة أيضا، وفي حالات أخرى كان الحصاد عكس ذلك. لذلك كله، أتصور أن هذا الكاتب نجح بسلاسة شديدة أن يدشن فكرة لاحت لي من خلال مطالعتي لموضوعه المثير، وهي فكرة «القارئ المعايش» التي تشعر معها بأن الكتاب أصبح صديقا لك.
↧