لعل أول مشهد يظهر في الذاكرة حين يأتي ذكر الكتب هو مشهد والدي حين يعود من صلاة المغرب ويشعل مصباح «الكاز» ويجلس ليقرأ قبل تناول العشاء، في حي جميرا الساكن فوق الشريط الساحلي الذي تتناثر فوقه بيوت صيادي الأسماك غربي دبي مطلع ستينات القرن العشرين. أول العناوين التي أتذكرها كتاب «رياض الصالحين» ثم «قصص الأنبياء». غير أن الكتاب الذي وجدته بين كتب أبي والذي شدني إليه وتعلقت به لسنوات طويلة هو كتاب «جواهر الأدب: في أدبيات وإنشاء لغة العرب» لمؤلفه أحمد الهاشمي، حيث قرأته أول مرة على ضوء ذلك المصباح قبل دخول الكهرباء إلى حينا. كانت النسخة طبعة 1964 في القاهرة والمكونة مما يقارب 500 صفحة ولقد حافظت على بقاء تلك النسخة بين كتبي حتى اليوم إذ، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود، أحتاج للعودة إليه بين فترة وأخرى. ميزة هذا الكتاب أنه يمكنك من الاطلاع على أهم ما جاد به كتاب العربية قديما وحديثا. فهو يقدم تعريفا للأدب وفنون الإنشاء كالمكاتبات والرسائل «الأدبية» كرسائل الثعالبي والبسطامي وابن العميد والهمذاني والجاحظ وحتى اليازجي ومحمد عبده، ثم هناك باب في الوصف كوصف البلدان والقلاع والربيع والمطر والبيان والمكارم وهذه أمثلة قليلة فقط، وحتى الوصف الحديث لحفلة ومتحف والفونوغراف والنظّارة. بعد ذلك هناك باب في اللغة العربية وآدابها والعصر الجاهلي وأسواق العرب والخطابة ثم الشعر وأنواعه وأغراضه كالفخر والمدح والهجاء والرثاء ثم ذكر أهم شعراء العربية فيبدأ بالجاهليين ثم عصر صدر الإسلام وخطب الخلفاء ثم شعراء العصور التالية وأدب عصر الدولة العباسية وشعراء الأندلس حتى يصل عصر المماليك وأدب الطهطاوي ومحمود البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم مما لا يتيح المجال هنا ذكرهم. الأسماء التي تعرفت إليها في «جواهر الأدب» قادتني للبحث عن المزيد من نتاجاتهم في مبنى «المكتبة العامة» في دبي التي كانت قد أنشئت عام 1962 على خور دبي. ولوج تلك المكتبة وأنا ما زلت صبيا صغيرا، حيث كنت أرافق والدي إلى مقر عمله القريب من المكتبة، كان بمثابة متعة لا تضاهيها أي متعة. هناك وجدت المزيد من كتابات جبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وبشارة الخوري وتعرفت إلى السياب ونازك، نزار ودرويش. هناك كتب بقيت تلمع في الذاكرة منها بعض روايات إحسان عبد القدوس ومحمود تيمور وعبد الحليم عبد الله. وكانت قراءة «ألف ليلة وليلة» أمرا مدهشا في ذلك الوقت، لهذا وجدت أن قضاء الوقت مع الكتب أكثر متعة من اللعب وتمضية الوقت في التسكع في الحارة. في أول معارض الكتب في الشارقة تمكنت من تكوين أول مكتبة خاصة بي وحصلت وبقية الأصدقاء على كتب مجانية كأجر لنا لمساعدة الناشرين على حمل صناديق الكتب من السيارات حتى داخل المعرض وإخراجها وتوزيعها على الأرفف. من الكتب الأولى التي أمكن الحصول عليها حينها روايات الأدب الروسي خاصة ديستويفسكي وغوركي وغوغول ثم أدب أميركا اللاتينية وعلى وجه التحديد ماركيز وأمادو. كان لا بد كذلك من التوقف عند لوركا ونيرودا وناظم حكمت وغيرهم ممن داعبت قصائدهم الوطنية والثورية عواطفنا الجياشة حينها بالأفكار المتمردة. إلا أن هناك كتبا تترك فيك أثرا لا ينسى ومنها كتاب «جماليات المكان» لغاستون باشلار. في هذا الكتاب تتمكن من الاقتراب «علميا» من عالم الشعر الغامض مع أمثلة شعرية وتحليل فلسفي تعرفنا عليه لأول مرة من خلال فلسفة باشلار في الفينومينولوجيا أو الظاهراتية كما عُربت حينها. كشف ساحر صاغه باشلار كما لو كان شاعرا يقوده تفكير علمي منطقي. «مجنون إلزا» لأراغون كان من الكتب التي تترك في من يقرأها مشاعر جياشة وكان عبارة عن ملحمة شعرية روائية مذهلة توقفت عندها لأشهر وقادني هذا الكتاب إلى كتب أراغون وإلى وقفة طويلة مع الشعر الفرنسي خاصة مع بول فاليري وأيلوار ورامبو ورينيه شار وإيف بونفوا. حين جاءت الفرصة للدراسة في الولايات المتحدة أمكن العودة لبعض أولئك الكتّاب وقراءتهم باللغة الإنجليزية مما أنقذني من بعض الترجمات الضعيفة إلى العربية خاصة في الشعر والرواية. * خالد البدور، شاعر إماراتي، من مجموعاته الشعرية، «ليل» و«شتاء» و«مطر على البحر».
↧