يندرج كتاب الشاعر والإعلامي علي عبد الأمير عجام، المعنون: «حنين بغدادي»، الصادر مؤخرا عن دار الأديب، ضمن سلسلة من الإصدارات العراقية التي تريد إعادة الاعتبار إلى المدينة المنتهكة، بل البلاد التي تناهبتها عواصف من الخراب والتخلف ولم تترك شيئا إلا وضربته. وميزة هذا النوع من الكتب، وهي كتب استرجاعية كتبت على الأغلب بلحظات صفاء، أنها تقذف قارئها في متن سردي قصصي صار اليوم نائيا، حتى وإن كان عمر الحدث البطل لا يتجاوز عشرين عاما. وكتاب «حنين بغدادي»، كما يقول مؤلفه: «ليس بكائية لوطن يكاد ينتزع منا.. إنه الدفاع عن جرح غائر لا يندمل.. اسمه العراق الجميل»، وعبر هذه الجملة – المفتتح، يضع القارئ على «عقدة» الكتاب، ثيمة الأساس، بلغة الدراما. إنه رحلة، رحلة في الزمان والمكان، يأخذك المؤلف فيها، بلغة أقرب ما تكون إلى بوح مجروح، إلى قصص شكلت إرث أجيال عراقية عريضة، كانت الفنون والآداب فيها تتصاهر مع بعضها البعض وهي تنتج إنسانا متحضرا لم تكبله الشعارات الحزبية، ولا الضغائن المجتمعية ولا الخلافات الدينية أو القومية.. رحلة تمتد على طول وعرض خريطة البلاد، أسهم في صنعها كون المؤلف عمل في أكثر من مكان سواء أكان عمله مدنيا أم عسكريا. وعبر هذه الرحلة نمر على بيوت، وشوارع، ومقاه وبارات وجبال ومعسكرات وساحات قتال.. أشخاص يمرون في ذاكرة الواحد منا فيتركون بصمة الأبدية وراءهم. لا يترك علي عبد الأمير عجام شاردة أو واردة في ذاكرته إلا ودونها في كتاب الرحلة هذا. ويدعم تفاصيل الرحلة بصور فوتوغرافية التقطتها عدسته في أحيان وفي أحيان أخرى كانت الصورة من خزين تاريخ البلاد المعروف. وإذ تتقافز الحيوات في ثنايا الكتاب، فإنها تنبض ببهاء يحيل إلى مرحلة من عمر بغداد، صارت اليوم مجرد ذكرى لجهة تطورها العمراني والمدني. وكتاب علي عبد الأمير عجام يثير عددا من النقاط الجوهرية في فن السيرة، وأولى تلك النقاط ما خص الأخلاق. فنحن، وإذ نوجه كشافات الإضاءة على حقبة من حياة مجتمعنا البغدادي، والعراقي، بحاجة إلى أن تكون تلك الإضاءة منصفة، وأخلاقية، ومعبرة بحق عن شجون ومسرات تلك الحقبة. سهل أن ترمي الجميع بالتهم وتجعل من نفسك البريء الوحيد في جريمة صنعناها جميعا، ولكن الفروسية في أن تكون رحلتك أخلاقية لدرجة نكتشف معها علامات مضيئة أسهمت في تحويل الجريمة إلى ملاذ للأمل. ومن الأخلاق إلى الصدق، وربما يقود الصدق إلى الأخلاق أو العكس. فصدق الكتاب هنا هو الذي يدفعنا دفعا، لنكون مشاركين في صياغة أحداث الرحلة لا مجرد متلقين، وهذا ما شعرت به على الأقل. الشخصيات، والأمكنة التي يتحدث عنها الكتاب صارت شيئا فشيئا شخصياتي أنا وأمكنتي أنا. صرت أعرفها جيدا، وأتفاعل معها ومع خيباتها، وذلك لم يكن ليتحقق لولا توفر شرط المصداقية في الكتابة. والمصداقية أمر تتلمسه، تشعر به على الأغلب، وهو يجرك إلى مكامنه فتستشعر معه خلجات الكاتب وهو يدون سطوره على الورق. ثم، وما زلنا في حديث شروط السيرة، أنت بحاجة إلى لغة تشير إليك بالدرجة الأساس. ويمتاز صاحب «يدان تشيران لفكرة الألم»، بلغة شعرية كان دشنها في عدد من مجاميعه الشعرية بالإضافة إلى ما عرف عنه من ولع بالموسيقى، ذلك الولع الذي دفع بنصه إلى ثراء لغوي وإيقاعي شكل تنويعات لغوية قادرة على مد خطوط من العلاقة مع المتلقي أفضل ما يمكن وصفها بالإيجابية. كتاب «حنين بغدادي» لا يكتفي بإعادة قارئه إلى زمن يوصف بالمدنية فقط بل يوغل عبر لغته وصدقه وأخلاقه في تنوير مساحات عامرة بالحب والتسامح في بلاد يتفق الجميع بحاجتها اليوم إلى شيء من ذلك البهاء والثراء الروحي.
↧