خلال العام الماضي (2012) ظهرت طبعة جديدة – مزيدة ومنقحة – من كتاب «ألف عام من الأدب الإنجليزي» لمؤلفه كريس فلتشر، أمين المجموعات الخاصة بالمكتبة البودلية بجامعة أكسفورد حاليا، وأمين المخطوطات الأدبية بالمكتبة البريطانية (مكتبة المتحف البريطاني) سابقا. وقد شاركه في إعداد الكتاب روچر إيانز، وسالي براون، وچامي أندروز. والكتاب صادر عن المكتبة البريطانية بلندن في إخراج أنيق يلائم ما يضمه من صور فوتوغرافية ونقوش (رسما على الخشب أو المعدن) وصور مخطوطات كتب قديمة أو قصائد وروايات وأقاصيص ومسرحيات ويوميات بخطوط مؤلفيها. ويغطي الكتاب 10 قرون من تاريخ الأدب الإنجليزي بدءا بملحمة «بيولف» الأنجلو - سكسونية مجهولة المؤلف نقلها إلى العربية الدكتور مجدي وهبه ووصولا إلى الشاعرة المعاصرة وندي كوب المولودة عام 1945، مرورا بأعلام الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى وعصر النهضة وعصر رجوع الملكية في إنجلترا (1660) والقرن الـ19 والقرن الـ20. ويختلف الكتاب عن غيره من تواريخ الأدب الإنجليزي – وهي كثيرة – في أنه يضم صورا نادرة (من مقتنيات المتحف البريطاني) لمئات المخطوطات التي تصور مراحل تطور الفن الطباعي كما تصور مخطوطات الأدباء بأقلامهم أو مرقومة على الآلة الكاتبة، وآلاف التعديلات التي أدخلوها على مسوداتهم الأولى. وهي بهذا تتيح لنا فرصة نادرة للوقوف على المراحل التي سبقت صدور العمل الأدبي في صورته النهائية، وما مر به من مراحل، ودلالة التعديلات التي يحدثها الأدباء على اتجاه فكرهم ونوعية الأثر الذي يودون أن يخلفوه في المتلقي، سامعا أو قارئا. وتبدأ رحلة الكتاب بملحمة «بيولف» المكتوبة باللغة الأنجلو - سكسونية أو الإنجليزية القديمة وهي تختلف عن الإنجليزية المعاصرة بحيث تكاد تكون لغة مغايرة تحتاج إلى تعلمها مثلما يتعلم المرء لغة أجنبية نحو القرن الـ10 الميلادي. على أن بدايات تكوين القصيدة ربما كانت أقدم من ذلك: فهي قد بدأت في صورة روايات شفهية في القرن السابع، وألفت على الأرجح في القرن الثامن، ولكنها لم تصلنا إلا مكتوبة بالريشة على رق رقيق (من جلد العجل أو الجدي أو الحمل بعد إعداده للكتابة) من القرن الـ10. وربما كان المراد بها أن تلقي على السامعين بمصاحبة قيثار. والملحمة تروي قصة بيولف وهو بطل إسكندنافي محارب من القرن الخامس أو السادس خلص مملكة الدنمارك من وحش بحري مخيف يسمى جرندل، وقصة أم جرندل التي سعت إلى الانتقام من بيولف لقتله ابنها. ويحكم بيولف المملكة في سلام لمدة 50 سنة إلى أن يقبل عليها تنين يهاجم المملكة فيتصدى له بيولف، وقد علت به السن هذه المرة. ورغم أنه يتمكن من قتل التنين، بمعاونة أحد رعاياه المخلصين، فإنه يصاب بجروح قاتلة في نزاله معه. وتنتهي الملحمة – على نحو جليل – بمراسيم جنائزية لحرق جثة البطل، ونبوءة بأن كارثة ستحيق بمملكته من بعده. وينتهي الكتاب بنبذة عن الشاعرة وندي كوب مع صورة فوتوغرافية لها وصورة مخطوط قصيدة بخط يدها. وكوب واحدة من أحب شواعر بريطانيا المعاصرات إلى الجمهور القارئ، ودواوينها من أكثر الكتب مبيعا وذلك منذ نجح ديوانها الأول الصادر عام 1986 وعنوانه «صنع كاكاو لكنجزلي إيمس». إن كتابتها تتميز بنزاهة وجدانية وعين لا تنكص عن ملاحظة تفصيلات الحياة اليومية وما قد تزخر به من سخافات تبعث على الضحك أو توترات تبعث على القلق، خصوصا في مجال العلاقات العاطفية. وفي عام 1998 أمل الكثيرون أن تخلف الشاعر تد هيوز في منصب «أمير الشعراء» ولكن شاعرا آخر – هو آندرو موشن – فاز بدلا منها بالمنصب. ورغم اختلاف النقاد أحيانا حول قيمة عملها فإن الرأي منعقد عموما على أنها صوت شعري أصيل ذو دلالة. وقد وصفت – لاهتمامها بحياة الإنسان العادي – بأنها خليفة الشاعر فيليب لاركن. وإلي جانب براعتها التقنية يمتد خيط من النزعة النسوية في عملها، خصوصا حين تكتب محاكيات ساخرة لشعراء رجال من قامة ت.س.إليوت وتد هيوز وشيماس هيني. وقد ولدت كوب في مقاطعة كنت، ودرست التاريخ بجامعة أكسفورد، واشتغلت قرابة 20 عاما مدرسة في مدرسة ابتدائية بلندن قبل أن تقرر هجر الوظيفة والتفرغ للكتابة. وتشمل دواوينها «شواغل جدية» (1992) «إذا كنت لا أعرف» (2001) «علاجات الحب» (2008) «قيم عائلية» (2011). كذلك كتبت عدة أعمال للأطفال. وفيما بين هذين المعلمين – ملحمة بيولف وقصائد كوب – يتحرك بنا الكتاب بين أعلام الأدب الإنجليزي في شتى عصوره: تشوسر وشكسبير وملتون وسويفت وبوب ودفو ورتشاردسون وصمويل جونسون وبليك ووردزورث وكولردج وشلي وبايرون وكيتس وسكوت وجين أوستن والأخوات برونتي ودكنز وتنسون وبراوننج وجورج إليوت وهاردي وكونراد وإليوت وجويس ورجينيا ولف وييتس وبرنارد شو ولاركن وأودن وبنتر وستوبارد وغيرهم. إنه تاريخ حافل بالإبداعات الخلاقة، والخيال المحلق، والواقعية الصادقة، والمغامرات التقنية، والسعي المتواصل إلى ارتياد آفاق جديدة في الذات والمجتمع على السواء. والأمر اللافت للنظر – عند تصفح مخطوطات هؤلاء الأدباء – هو مقدار العناء الذي كانوا يتكبدونه في الكتابة كي تخرج على أحسن نحو ممكن. إننا كثيرا ما نظن أن الشعراء الرومانتيكيين – بخاصة – كانوا يكتبون من وحي البديهة، دون تدبر، مثلما يغرد الطير. ولكن مخطوطات بليك وكيتس وسائر الرومانتيكيين تكذب هذا الظن، وتكشف عن مدى الوعي النقدي الذي كانوا يتحلون به. إننا نجد هنا مثلا صورة من مخطوط كيتس لملحمته التي تركها ناقصة «هايپريونى» فإذا بها تكاد تتمزق من فرط كثرة ما أدخله عليها من إضافات وتعديلات وحذوف. وكيتس الذي صنع هذا هو ذاته القائل: «إذا لم يواتك الشعر بطريقة طبيعية مثل الأوراق للشجرة، فمن الخير ألا يواتيك أساسا». والدرس المستفاد هو أن الشعر إلهام وصنعة معا، ربما كان نصيب الجهد الواعي فيه أكبر من نصيب الوحي التلقائي. لم يكن الشاعر الرمزي الفرنسي بول فاليري مخطئا حين قال: إن «الإلهام يجود علينا بالبيت الأول من القصيدة، ولكن علينا نحن أن نتم بقية القصيدة».
↧