رفعت يدي مع خمسة آخرين بينهم بنتان. كانت المدرسة مختلطة. سجل أسماءنا، وبعد انتهاء الدرس قادنا إلى غرفة المعلمين. لم تكن هناك مكتبة، بل خزانة صغيرة مزججة تقفل بمسمار. أخرج منها مجموعة كتب ملونة ووزعها علينا. كان من نصيبي قصة «الأميرة والثعبان». في الليل قرأتها خلسة متعجلا على ضوء خافت رجراج ينبعث من فانوس قديم قبل أن تطفئه أمي وتمتلئ الغرفة الطينية برائحة احتراق فتيلته المتآكلة. «الأميرة والثعبان» هي قصة الأطفال الوحيدة التي قرأتها آنذاك، فالاهتمام بالكتب والمجلات والأقلام يعد ترفا بنظر أسرتي المعدمة. كانت أي هواية تتجاوز المنهاج المدرسي تثير غضب الآباء وقسوتهم، فهم يعتبرون ذلك لهوا ينسينا أداء واجباتنا الأساسية. ما كان يشغلهم هو أن ننجح ونكبر بسرعة لندخل سوق العمل كي نساعدهم على تحمل أعباء الحياة القاسية، لذلك انقطعت عن قراءة القصص لكني لم أنقطع عن الاستماع إلى حكايات النسوة المسنات في الجوار، اللائي كن يزرن والدتي كل ليلة بعد العشاء. كانت وجوههن مزينة بالوشم، وفي أيديهن المعروقة المتيبسة تلتمع فصوص الخواتم. بعد انتقالنا إلى مدينة الثورة (الصدر حاليا) شرق بغداد أوائل الستينات عدت إلى القراءة. كان لي صديق يخدم شقيقه نائب العريف في وحدة خارج العاصمة، تعرفت إليه في إحدى إجازاته. كان يتكلم كحكيم وكانت عيناه تتوقدان ذكاء. حدثنا بطلاقة العارف (هكذا خيل إلي يومذاك) عن العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ والجواهري والزهاوي. أعارني رواية اسمها «لقيطة» لمحمد عبد الحليم عبد الله. وعندما أعدتها إليه أعطاني مجموعة من الكتب أذكر منها «شجرة اللبلاب»، و«ماجدولين»، و«تحت ظلال الزيزفون»، و«دعاء الكروان». استعذبت عوالم تلك الكتب وأخذت تشغلني الحكايات الجديدة التي لا تشبه حكايات النسوة المسنات، بل حكايات واقعية تحدث في الشارع والمقهى وفي الطريق إلى المدرسة المتوسطة. عصر يوم جمعة عثرت على فتى يبيع الكتب المستعملة قرب محل جقماقجي لتسجيل الأسطوانات في شارع الرشيد (الآن لم يعد ذلك المحل الزاهي سوى أطلال تثير الفزع والحنين). لم أنتبه إلى الفتى، كنت منصرفا إلى تصفح الكتب الكثيرة المفروشة على الرصيف والمعلقة على جدار الشارع حائرا في الاختيار. تقدم مني، سلم علي وحياني باسمي وقال إنه يعرفني لأنه يسكن قريبا من بيت خالتي التي كنت أزورها باستمرار. ألقى نظرات سريعة على الرصيف والتقط رواية عنوانها «بائعة الخبز»، قال وهو يعرضها علي: «لا تشترِها، اقرأها ورجعها وسأعطيك غيرها». رحت أمرّ عليه أيام الجمع والعطلات فقرأت روايات: «عمال البحر»، «أحدب نوتردام»، «الزنبقة السوداء»، «كوخ العم توم»، و«الآمال الكبيرة». لن أنسى تلك الخدمة الجليلة التي وفرها لي ذلك الكتبي الصغير الذي تضوع منه رائحة الورق. في تلك الأيام كنت أحبو في طريق التأليف، كتبت محاولة قصصية، حكاية عن جندي، وأعطيتها، كعادة الطلبة، إلى مدرس اللغة العربية في ثانوية قتيبة الأستاذ خليل بنيان كي يفحصها لي. وإذ أثنى على ما كتبت أوصاني بالقراءة الجادة، القراءة بلا انقطاع. وبعد أيام قال لي وهو يضع كتابا أمامي: «اقرأ هذا قبل أن تكتب». كان ذلك الكتاب مجموعة قصصية ليوسف إدريس عنوانها «النداهة». انبهرت بها، بأدائها وبعمقها، يومها لم أكن مطلعا على النتاج القصصي العراقي. واستجابة لنصيحة أستاذي قررت أن لا أكتب حتى تنضج أدواتي الفنية. مرة ذهبت إلى المكتبة المركزية في الباب المعظم بقصد استعارة بعض الكتب فرفضوا إعارتي. وبين جدران الكتب والمخطوطات لمحت شخصا أعرفه منذ أيام الدراسة الابتدائية. كان يعمل هناك. أكد أنه لا يحق لي سوى المطالعة داخل المكتبة المركزية لأني من طلاب الجامعة المستنصرية ولست من طلاب جامعة بغداد. لكنه وجد حلا مذهلا، هو أن يستعير الكتب التي أريدها باسمه. وبدأ يعطيني كل خمسة كتب دفعة واحدة مع التوصية، كل مرة، بالحفاظ عليها من التلف أو الضياع لأنه سيدفع غرامة على ذلك. إني أتذكر، بكل الحب والاحترام، جميع أولئك الذين جعلوا من الكتاب رفيقا دائما لي، والذين ساعدوني على الطيران بأجنحة غضة. * قاص وروائي عراقي له: «حقول دائمة الخضرة» و«خلف السدة» و«دروب الفقدان».
↧