القرآن الكريم هو بداية علاقتي بعالم الكتب، حيث كان أول كتاب تلمسه يدي وأنا في السابعة من عمري عندما شرعت في حفظ القرآن الكريم، وذلك على يد مشايخ الأزهر، فجدي كان من علمائه لكنه توفي وهو في السنة النهائية بتخصصه في القضاء الشرعي. وهي كانت علاقة قوية وقاسية ومرهقة أيضا لأنني كنت أحفظه بالفطرة دون الوعي والفهم، لكنها كانت قراءة مهمة لعبت دورها في زرع الهياكل العميقة للغة العربية وإيقاعاتها وبلاغاتها العالية في نفسي، ومن ثم كان القرآن يمثل قدرا من المثل الأعلى في الإيجاز والقوة والتركيز، وهو ما كنت أدركه بالحس وليس بالفهم. وأعتقد أن كل من يبدأ حياته بحفظ القرآن الكريم يتأصل لديه قدر من الوعي اللغوي والتحكم البلاغي والقدرة على البيان بما لا يضاهيها أي كتب أخرى. وفي مرحلة تالية، عندما تخرجت في المرحلة الابتدائية، كنت أقرأ الصحف وبعض المجلات الأدبية. وعلى الفور، بدأت علاقتي بالشعر بعد ذلك لأني عثرت على دواوين شعرية في مكتبة جدي، وحفظت الشوقيات وبعض القصائد الشعرية بالتوازي مع حفظ القرآن الكريم. هذا بالإضافة إلى حفظ آلاف الأبيات الشعرية كـ«ألفية بن مالك»، أو شواهد القواعد النحوية بحكم دراستي الأزهرية، فالتحمت الذاكرة الطفولية بالأبيات الشعرية وكان حفظ الشعر أيسر بكثير. كتاب مجلة «الرسالة» التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، كان مدرستي الأساسية الذي دخلت من خلاله عالم الكتابة النثرية، فقرأت فيه لمصطفى صادق الرافعي وطه حسين وإبراهيم المازني وأنور المعداوي وغيرهم من عشرات الكتاب الذين كانوا يمثلون السلالم الأولى لصعودي في منطقة الاطلاع على جوانب الفكر والمقالات والترجمات والكتابات التحليلية، فكانت «الرسالة» بأعدادها القديمة المتوافرة بالمكتبة الخاصة لدي هي المدرسة الأساسية التي أشبعت بها فضولي وزودت بها معلوماتي في نفس الوقت؛ فالقراءة الحرة أحب إلى الإنسان من القراءة المبرمجة. في تلك المرحلة، تطلعت إلى قراءة طه حسين، وشغفت شغفا عظيما بكتابات توفيق الحكيم وتشويقه الجاذب الأكبر، وقرأت أيضا للمنفلوطي الذي كان يمثل ذروة الرومانسية لنا في فترة الأربعينات، كما قرأت له مقالات مهمة في مرحلة لاحقة. وفي سن الشباب الجامعي، اتسعت دائرة القراءة لتشمل جيل يحيى حقي وسعيد العريان قبل أن أنتقل إلى المدرسة الروائية الحقيقية وروادها نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله ويوسف غراب، وغيرهم من عشرات الروائيين الذين كانوا يمثلون ازدهارا حقيقيا للجيل الأول من الروائيين المصريين. قراءة الشعر كانت المحطة التالية في علاقتي بعالم الكتب، فقرأت لإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وإبراهيم ناجي، وكان أحب الشعراء إلى قلبي علي محمود طه الذي تأثرت به بشكل عميق في بداياتي، خاصة قصيدته «الملاح التائه»، وكان حبي الكبير للشعر وراء عشقي للاستماع إلى القصائد التي كانت تغنيها أم كلثوم، وأذكر أنني وأنا في العاشرة من العمر كنت مغرما جدا بأغنيتها «سلوا قلبي» رغم صغر سني، وكنت أنبه على والدتي بأني توقظني من النوم لو أذيعت الأغنية أثناء نومي بالليل، وكذلك عشقت القصائد التي غناها عبد الوهاب، وخاصة «أخي جاوز الظالمون المدى». ساهم تفوقي في الدراسة في تعميق علاقتي بالكتاب، لأن جوائزي التي كنت أحصل عليها كانت كلها عبارة عن كتب منحها لي أساتذتي، وهو ما ترك بنفسي ذكريات خاصة وغالية جدا مع الكتاب. تحولت من قراءة الكتب إلى المساهمة في الكتابة على عدة مراحل؛ فبدأت بكتابة الشعر، ولكن لم يعجبني الشعر الذي كتبته فتوقفت عنه، متوجها لكتابة القصة القصيرة، لكن ما كتبته لم يرضني فمزقته! لأكتشف نفسي بعد ذلك بتوجهي نحو الكتابة النقدية. فعندما أقام المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مسابقة لكتابة الأبحاث على مستوى مصر، تقدمت لها وظللت أحصل على المركز الأول سنويا، فأدركت أن مستقبلي يرتبط بالبحث، واستشعرت أن البحث في الأدب تحديدا هو الذي يمكن أن أكتب فيه والمعروف عليه اصطلاحا بالنقد الأدبي. وأذكر أنني في سن السادسة عشرة قدمت بحثا تحليليا لمجموعة شعرية اسمها المفضليات في الشعر وفزت بالجائزة الأولى. قراءاتي في الأدب كانت هي المدخل لعالم الثقافة كله، لأن القراءة في الأدب لا تقتصر على مجال محدود وإنما تتسع لتكون خير رؤية للحياة. فرغم القوة الأدبية للغة العربية، كنت أستشعر أن هذا جانبا واحدا فقط من المعرفة وأنه لا بد من استكماله بجوانب أخرى، فتوسعت في قراءة القانون والاقتصاد والفلسفة، وخاصة فلسفة العلوم بجانب الفنون المحدثة كالسينما والموسيقى والفنون التشكيلية. * ناقد مصري
↧