قبل بضعة أشهر كان وزير الخارجية الأميركي يشيد بدور «شركائنا الروس» في إتمام عقد «مؤتمر جنيف للسلام» الثاني بشأن سوريا. ولأنه قضى وقتا مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، أكثر مما قضاه مع أي نظير آخر، فقد روج كيري فكرة وهمية بأن روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعملان كفريق واحد في ما يخص عدد من القضايا، بما فيها الحرب الأهلية في سوريا وطموحات إيران النووية. ثم وعلى حين غرة شاهدنا روسيا تستعرض عضلاتها في أوكرانيا، متجاوزة بذلك قاعدة مقدسة تقضي بعدم تغيير الحدود الأوروبية بالقوة. لم يكن لافروف ورئيسه، الرئيس فلاديمير بوتين، ينتهكان اتفاقية هلسنكي الرمزية - الموقعة في عام 1975 - فقط، بل انتهكا مجموعة كبيرة من الاتفاقيات التي تضمن استقلال أوكرانيا وسلامة أراضيها. وخلال حرب عسكرية - سياسية خاطفة، قام بوتين بضم شبه جزيرة القرم خلال أقل من أسبوع. بعبارة أخرى، تحولت روسيا إلى دولة مارقة. لكن السؤال المهم: ما هو تعريف الدولة المارقة؟ يُعرف كتاب مايكل روبين الجديد، الذي يقوم على أبحاث مستفيضة، الدولة المارقة على أنها تلك الدولة التي تتجاهل القانون الدولي والمعايير المقبولة للسلوك وقتما وحيثما كان ذلك التجاهل يخدم أهداف سياستها. فربما تقطع الدولة المارقة وعودا على نفسها أو توقع الاتفاقيات أو تنضم إلى المنظمات الدولية، لكنها ستبقى تفكر دائما مثل «الذئب المنفرد» الذي لا يلتزم بأي قواعد أو قوانين. حتى عندما تمد الدولة المارقة يد الصداقة بمشاعر دافئة، فإنها تبقى على أهبة الاستعداد لاستخدام السكين، التي تخفيها بيدها الأخرى وراء ظهرها. يقول روبين في كتابه «الدول المارقة دائما ما تأخذ خطوات استباقية ولا تعتمد على رد الفعل. هذه الدول ببساطة لا تتقبل المعايير الدولية». وهكذا، فإنه إذا ما أردنا أن نتعامل مع تلك الدول، فإن «حصر استراتيجية التعامل معها على استخدم الأدوات الدبلوماسية المعتادة، سيؤدي إلى فشل ذريع». ويشير روبين، وهو مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، إلى أن الدول المارقة تبدو قادرة على ممارسة تصرفاتها تلك لأن الدول القادرة على كبح جماحها تستسلم لإغراء فكرة أنه يمكن التوصل لتسوية عبر انتهاج الطرق الدبلوماسية. حتى قبل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، أصر باراك أوباما على أنه يجب على الولايات المتحدة أن «تتحدث مع أعدائها». على سبيل المثال، في حالة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عرض أوباما مد «يد الصداقة» واقترح عقد اجتماع فردي مع رئيس إيران في ذلك الوقت، محمود أحمدي نجاد. وقد بدا أوباما بتصريحاته وتصرفاته تلك وكأنه يوجه اللوم ضمنيا للإدارات الأميركية، التي تعاقب على مدار ثلاثة عقود، على توتر العلاقات مع إيران. غير أن أوباما لا يبدو وحيدا في تبني فكرة أنه بإمكانه أن يكون أفضل من الذين سبقوه. يقول روبين في كتابه «لم يتخل (الرئيس الأميركي الأسبق جيمي) كارتر عن أمله في أنه ربما ينجح في التوسط لتحقيق السلام». وقد تبنى كارتر ذلك الاعتقاد لأنه كانت لديه «ثقة لا تقبل الشك في قدرته على الإقناع»، وكان يعتقد أنه «إذا كانت الدبلوماسية قد فشلت في الماضي، فإن الذنب يقع على الإدارات التي سبقته وليس على خصوم أميركا». ويوضح روبين في كتابه كيف رفضت الإدارات الأميركية المتعاقبة الاستفادة من تجارب أسلافها. ولنأخذ قضية سوريا كمثال.. ففي وقت ما من عام 1970، ولأسباب ما زالت غامضة حتى الآن، تبنت وزارة الخارجية الأميركية فكرة خاطئة تقوم على أنه لا يمكن أن تندلع حرب من دون مصر، ولا يمكن أن يجري التوصل إلى سلام من دون سوريا في الشرق الأوسط. وعليه، فقد أصبحت القمة السنوية بين الرئيس الأميركي والديكتاتور السوري، حافظ الأسد، جزءا أصيلا من طقوس الدبلوماسية الأميركية. وعلى مدار ثلاثة عقود، أصبحت دمشق الوجهة الأكثر شعبية بالنسبة لوزراء الخارجية الأميركية. فقد زار جورج شولتز دمشق ست مرات، بينما حط جيمس بيكر رحاله في سوريا مرات عدة بلغت ضعف ذلك الرقم، في حين شد وارن كريستوفر الرحال إلى دمشق ضعف رقم بيكر، إذ زار سوريا 29 مرة. غير أن المثير للاهتمام أنه لم يتوقف أحد ولو للحظة ليقيم نتائج هذا الاهتمام الطاغي الذي حظي به هذا الديكتاتور عديم القيمة. وكلما زار وزير خارجية جديد دمشق، عاد ليزعم أنه نجح في ما فشل فيه الآخرون. ويبدو قياس مدى تحقيق النجاح في «الرقص مع الشيطان» في حد ذاته ضربا من التشويش. ومن بين الادعاءات، التي يجري إطلاقها لتبرير التودد إلى الدول المارقة، يبرز الادعاء القائل بأن «المحادثات أفضل من الحرب»، وتبدو الخدعة هنا في أن ذلك الادعاء يهدف إلى اختزال جميع الخيارات إلى خيارين فقط: فإما الحديث مع العدو أو غزو أراضيه. وغالبا ما تنجح تلك الخدعة لأن الكثيرين ليس لديهم الوقت أو المعلومات الكافية ليدركوا أن الحرب ليست هي البديل الوحيد للمفاوضات العقيمة. ويدعي أولئك المتوددون إلى الدول المارقة أن المحادثات تساعد في «بناء الثقة» أو إيجاد «مؤشرات على إمكانية الشراكة في المستقبل»، كما يزعمون أنه جرى إحراز «تقدم متواضع» أو أن «حوارا بناء» يجري في الوقت الحالي وأن «إشارات مشجعة» تبدو في الأفق. وعندما لا يبدو أي من تلك المزاعم مقنعا، يخرج علينا المتوددون إلى الدول المارقة ليؤكدوا لنا أنه لولا الانخراط مع تلك الدول في محادثات لكانت الأمور أسوأ بكثير مما هي عليه الآن. تتمتع الدول المارقة عن خصومها الديمقراطيين، بمن فيهم الولايات المتحدة، بميزة مهمة، وهي أن الزعماء المارقين يمكثون في الحكم فترات أطول بكثير من نظرائهم الديمقراطيين. فالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي كان ولا يزال لاعبا محوريا في هيكل السلطة في طهران منذ عام 1979، وتعامل مع ستة رؤساء للولايات المتحدة. وكان الرئيس حسن روحاني شخصية رئيسة في الأجهزة الأمنية للخميني منذ عام 1980، قبل وقت طويل من بداية طموحات أوباما السياسية، كما كانت أسرة كيم في بيونغ يانغ المسؤولة عن مصير كوريا الشمالية لأكثر من ستة عقود. وهيمنت عائلة الأسد على الحكم في سوريا منذ عام 1970، وبوتين هو الآن في العقد الثالث له في السلطة كرئيس للوزراء و/ أو رئيس لروسيا. وتعلم الدول المارقة أن خصومها في الأنظمة الديمقراطية لا يبدون اهتماما كبيرا بالتعامل مع القضايا المعقدة. فصناع السياسة الأميركية يتولون المناصب ويتركونها، ويكتبون كتبا، ويبدأون بعد ترك مناصبهم في دوائر الحكم عملا مختلفا في مؤسسات الفكر والرأي دون رغبة في تعقيد حياتهم. ويذكر روبين عددا كبيرا من أسماء السياسيين والدبلوماسيين السابقين الذين أعادوا اكتشاف أنفسهم كصانعي سلام مستقلين. ويأتي من بين تلك الشخصيات البارزة لي هاملتون، وتوماس بيكرينغ، وزبيغنيو بريجنسكي، وبرنت سكوكروفت، وريتشارد هاس. وعلى الرغم من أنهم لا يسهمون في تكريس وهم السلام، فإنهم يساعدون الدول المارقة في كسب المزيد من الوقت لإلحاق المزيد من الأذى. ونتيجة لأن دورة الانتخابات في الولايات المتحدة لا تتزامن مع دورة الدبلوماسية، فإن أي تغيير في الإدارة و/ أو العاملين في واشنطن يعني عودة «عملية المفاوضات» إلى المربع صفر مرة أخرى. ويصبح المسؤولون المنتهية ولايتهم نقادا للحكومة القادمة زاعمين أنهم تعاملوا بشكل أفضل من الحكومة التي خلفتهم. ومن حالت أعمارهم دون بدء عمل آخر، كجون كيري وجوزيف بايدن، تراهم يفضلون الحوار، حتى وإن لم يؤد إلى نتيجة، طمعا في أن يوصفوا بصناع السلام، وربما ينتهي بهم الأمر بالحصول على جائزة نوبل للسلام. وقد كتب روبين «تتعامل النخبة في واشنطن مع الحوار مع الدول المارقة كدول ملتزمة ومتطورة. وكل من يرى أن الدول المارقة لن تتوقف ما لم تصطدم بشيء صلب يوصم بأنه أحد دعاة الحرب». يعرف صناع القرار و/ أو منفذو السياسات الأميركية أنه مهما كانت نتيجة «الحوار» مع الدول المارقة، فإن المخاطر الشخصية تكاد تكون معدومة. في المقابل فإن المتحاورين الذين يمثلون الجانب «المارق» في وضع مختلف بشكل كبير. فالهفوات قد تعني فقدان القوة، والسجن؛ والمنفى، وحتى الموت. وقد غذى دعم الحوار مع الدول المارقة صناعة استرضاء ضخمة تضم الآلاف من المسؤولين السابقين والخبراء وكتاب الرأي، وأصحاب «المسار الثاني». وتتم مكافأة «دعاة السلام» بتأشيرات لزيارة الدول المارقة والاتصال بشخصيات قوية هناك. وقد استفاد دعاة السلام، في كثير من الحالات، أيضا من صفقات تجارية مربحة والاستشارات للحصول على ربح سريع. وبمرور الوقت تحول الحوار إلى هدف في حد ذاته، لا إلى وسيلة لتحقيق غاية. وترحب الدول المارقة بالحوار لأنه يزيل التهديد بعمل عسكري أو عقوبات مؤلمة حقا ضدها. وقد مكن حوار كيري مع لافروف الروس من الحفاظ على بشار الأسد في السلطة في دمشق وإطلاق مرحلة جديدة في خطة بوتين لإحياء الإمبراطورية السوفياتية، بشكل جزئي على الأقل. وقد مكن الحوار مع ملالي إيران من مواصلة برنامجهم النووي في الوقت الذي تحول فيه أوباما إلى رئيس لجماعة ضغط لمنع الكونغرس الأميركي من فرض عقوبات جديدة. وهذه هي الطريقة التي يقيم بها حسين موسويان، مسؤول الأمن السابق لدى الخميني، نتائج جولة سابقة من المفاوضات مع القوى الغربية الأخرى والولايات المتحدة، والتي قال فيها «خلال عامين من المفاوضات حققنا تقدما أكبر بكثير (في تخصيب اليورانيوم) من كوريا الشمالية». كانت التقنية بسيطة: الاستمرار في الحوار ولكن بالاستمرار في الوقت ذاته في ما كانت تفعله! وقد كان عبد الله رمضان زاده، المتحدث باسم الرئيس السابق محمد خاتمي، أكثر تحديدا: «كانت لدينا سياسة علنية، متمثلة في المفاوضات وبناء الثقة، وسياسة سرية تتمثل في الاستمرار في متابعة أنشطتنا (النووية)». كجزء من استراتيجية الاسترضاء، تغاضت الإدارات الأميركية المتعاقبة عن الجرائم التي ترتكبها الدول المارقة ضد أميركا. فعلى سبيل المثال، منذ عام 1979 احتجزت الجمهورية الإسلامية في طهران عددا من الرهائن الأميركيين دون أن تفقد تعاطف اللوبي الاسترضائي (ولا يزال هناك خمسة رهائن أميركيين في إيران). وقد اختار الرئيس بيل كلينتون تجاهل مقتل 19 جنديا أميركيا من قبل عملاء حزب الله الإيراني في الخبر، المملكة العربية السعودية، بل واعتذر عن «الأخطاء التي ارتكبتها أمتي ضد إيران». وقد سرقت عصابة كيم في كوريا الشمالية المليارات من المساعدات الأميركية، التي يفترض أن تكون في مقابل وقف برنامجها النووي، لكنها كانت مشغولة بتوسيع ترسانتها الفتاكة. في كل الحالات، كانت الدول المارقة أو المدافعون عنها يعرفون كيفية خداع الأميركيين السذج. فهذا هو طارق رمضان، حفيد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، يقول «لا بد لي من التحدث بطريقة تلائم رغبات المستمعين لي». ولم يتوقف الأمر عند المثاليين المضللين فقط، بل وصل إلى الانتهازيين والأغبياء الذين وعظوا وتعاملوا مع المارقين. وفي بعض الأحيان، هناك مسؤولون أميركيون يتعاطفون مع الأسباب الحقيقية أو الخيالية التي اتبعها المارقون. واستشهد روبين كمثال بحالة العديد من المسؤولين في إدارة كارتر، من بينهم المحلل ريتشارد فولك وريتشارد كوتام، وعميل المخابرات غاري سيك، الذي ضلل الرئيس من أجل حماية النظام الخميني الهش آنذاك من رد فعل أميركي مؤثر. واستمر المرضى أيضا في تسريب معلومات إلى رجال الدين، وبالتالي مساعدتهم على توقع التحركات الأميركية. يقدم روبين درسا قويا لأي شخص يبدي رغبة في التعليم، وهو أن «أول ضحايا الحوار مع الدول المارقة هو الوضوح الأخلاقي».
↧