«القاموس العاشق للإسلام»، ليس من عندي وإنما هو للمفكر الجزائري المعروف: مالك شبل. وهو من أشهر المثقفين العرب حاليا في فرنسا. فقد صدرت له عدة كتب لفتت الانتباه. نذكر من بينها «بيان من أجل إسلام التنوير» و«الإسلام والعقل»، و«قاموس الرموز الإسلامية»، و«القاموس الموسوعي للقرآن الكريم»، و«قاموس عاشق للجزائر». ثم هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم. إنه لشيء ممتع أن تقرأه وأنت مطل من أعلى طابق في المكتبة على باحة كاتدرائية رانس الشهيرة. تنظر إلى أسفل من علو شاهق فيسحرك المنظر. الناس تحتك مباشرة وأنت في أعلى عليين. لأول مرة تمارس ساديتك على البشرية. تتذكر نيتشه عندما كان يصعد إلى أعلى قمم الجبال في سويسرا. لا يستطيع أن يتفلسف إلا والناس تحته على بعد ستة آلاف قدم. تحتك مشهد سينمائي ولا أروع. حضارات، حضارات.. ماذا يصنع شخص متخلف مثلي هنا؟ ثم بالأخص لا يوجد حولك إلا الجمال الفتان فينشرح صدرك وتنفتح شهيتك الفلسفية على مصراعيها. في مثل هذا الجو المليء بالمشاعر المتناقضة، رحت أقلب صفحات هذا الكتاب وأستمتع به كل الاستمتاع. بإمكانك أن تنتقل من مادة إلى أخرى، ومن عنوان إلى عنوان، كأنك في بستان. فمن مادة تتحدث عن إسهام العرب في الحضارة، إلى أخرى تتحدث عن الجاحظ، وتقدم لك صورة شخصية ممتعة عنه (بورتريه). وهل هناك أمتع من الجاحظ؟ إلى مادة تتحدث عن غوته والشرق، إلى أخرى تتحدث عن ابن خلدون، أو ابن رشد، أو الخوارزمي، أو نجيب محفوظ، أو الموسيقى العربية الأندلسية، أو معنى الجهاد، أو الاجتهاد، أو الجنس عند العرب... إلخ. عشرات المواد تتوالى أمام ناظريك دون أن تكل أو تمل. وإذا ما مللت من إحداها قفزت عليها وانتقلت إلى مادة أخرى، وهكذا دواليك.. من المعلوم أن مالك شبل أخذ أهمية كبيرة على الساحة الباريسية في السنوات الأخيرة بفضل تدخلاته في وسائل الإعلام وكتبه الكثيرة المتلاحقة.. انه يبدو كمثقف حداثي وأصيل في الوقت ذاته. إنه معجب جدا بأصوله العربية الإسلامية ولا يتنكر لها أبدا رغم انغماسه في الحداثة الباريسية. كدت أقول إنه يبدو كمثقف مستنير. ولكن، خفت أن ينقضوا علي من كل الجهات فآثرت السلامة وتحاشيت هذا المصطلح الشائن الذي أصبح يثير حساسية مفرطة لدى بعض الإخوان الكرام. وأخشى ما أخشاه أن يفرغ من معناه من كثرة الاستخدام بمناسبة وبلا مناسبة كما حصل لبقية المصطلحات والشعارات العربية. أخشى أيضا أن يعتبروني مسؤولا عن ترويجه مع بعض الآخرين ويقدموني إلى حبل المشنقة! من يعلم؟ أفتح على صفحة الجاحظ فماذا أجد؟ أجد ما معناه: لقد قارنوه بكبار الكبار من أمثال فولتير لأنك لا تستطيع أن تقرأه دون أن تنفجر بالضحك. وهذه نعمة ما بعدها نعمة وموهبة لا يقدر عليها إلا المصطفون الأخيار. (الفذلكات الزائدة عن اللزوم من عندي. ولكنها موجودة ضمنيا في كلام الباحث الجزائري المرموق). لقد كان الجاحظ يمتلك إمكانات أكبر المدافعين عن حرية التفكير والتعبير، بالإضافة إلى روحه المرحة لأن كتاباته مضحكة ومسلية في غالب الأحيان. ولكن هذا لا يعني أنها ليست عميقة وجادة كل الجدية. غير أنه على طريقة فولتير كان يعرف كيف يمزج الهزل بالجد. لقد استفاد الجاحظ من جو الحرية الذي كان سائدا إبان العصر الذهبي للعباسيين، وخاصة عصر الرشيد والمأمون حيث عاش قسما كبيرا من حياته. وقد شهد بداية المجادلات الدينية للمعتزلة. وهي - كما يقول مالك شبل - فرقة مشكلة من المفكرين الأحرار في الإسلام. وكانت نصوصهم تقرأ في الخفاء وتتناقلها الأيادي بصمت. ومعلوم أنهم طالبوا بتطبيق المنهج العقلاني على كل المجالات بما فيها المجال الديني. وقد برع الجاحظ في ذلك كل البراعة. ولذلك، يمكن اعتباره أحد كبار المفكرين التنويريين في الإسلام. والواقع أنه هو ذاته كان معتزليا. ويقال بأنه هو الذي اخترع النثر العربي. ومن ثم فكلنا من أحفاده. أنتقل الآن إلى مادة بعنوان: الأصولية والتعصب الأعمى، فماذا أجد؟ يقول الباحث الجزائري بأن التعصب غير معسكره أخيرا وانتقل من جهة إلى أخرى. ففي الماضي، كان في جهة الفرنسيين ومن سواهم عندما كانت أوروبا تغط في ظلام عميق. ولذلك، اتهم مفكرو القرن التاسع عشر أولئك المسيحيين الهائجين المسعورين الذين يريدون فرض دينهم بالقوة بأنهم شوهوا رسالة المسيح الذي كان مسالما جدا إلى درجة أنه قال: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. لقد انخرطوا بكل حماسة هيجانية في محاكم تفتيش وحروب صليبية وما إلى ذلك. والغريب العجيب أنهم كانوا يقتلون الناس بالمئات والآلاف دون أن يرف لهم جفن. والأنكى من ذلك أنهم ما كانوا يشعرون بأي ذنب أو تأنيب للضمير. على العكس، كانوا يجذون الرقاب وهم في غاية السعادة والاطمئنان لأن فتاوى رجال الدين كانت تقدم لهم التغطية الكافية. وربما لولا ذلك لجنوا أو لما تجرأوا على سفك الدماء بمثل هذه السهولة. فليس من السهل أن تذبح الناس الأبرياء وتنام بعدئذ كأن شيئا لم يكن. ويرى فولتير أن هذا التعصب الأعمى عبارة عن مرض قد يصيبك كما تصيبك الجراثيم. فهل هناك بكتيريا تدعى: جرثومة التعصب الطائفي؟ وهل تنتقل بالعدوى يا ترى؟ ولكن أوروبا تخلصت من هذا الوباء بعد أن تقدمت وتحضرت واستنارت. رجعنا إلى التنوير! ألا توجد كلمة أخرى؟ أم أنك تتقصد ذلك تقصدا بنوع من الخبث والاستفزاز وربما الاستمتاع أيضا! على أي حال انتقلت الظاهرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط: أي إلى عندنا نحن بالذات. ويرى مالك شبل أن ظاهرة الأصولية ناتجة عن الفقر والظلم والاستبداد والطغيان، وبالأخص الجهل. ولكن، هناك عامل آخر لا يستهان به: ألا وهو الالتزام المطلق بالتفسير الحرفي للنص. وهذا يعني عدم الاعتراف بالتطور وتاريخية النص. فما كان سائدا قبل ألف سنة يعتقدون إمكانية تطبيقه بحذافيره من دون أي تعديل. إنهم يقدمون الحرف على الجوهر: أي جوهر النص ومقاصده العميقة. وهنا تكمن أزمة الوعي الإسلامي حاليا. أنتقل إلى موضوع آخر مختلف تماما. أفتح القاموس على اسم قيس بن الملوح المشهور باسم: مجنون ليلى. وهو أشهر عاشق في تاريخ العرب، بالإضافة إلى جميل بثينة وذي الرمة ومعبودته مي... إلخ.. ولا يقابله في الآداب العالمية إلا روميو وجولييت. فماذا يقول عنه مالك شبل يا ترى؟ إنه يصفه بالهائم على وجهه في البراري والقفار بعد أن زوجوا ليلى بشخص آخر. عندنا مثل في القرية يقول: «اللي بيعشق ما بيتزوج». لقد فقد عقله أو كاد. من هنا اسمه: مجنون ليلى. لقد أصبح يتوسد الرمال ويلتحف السماء والنجوم بعيدا عن ضجيج البشر وحساباتهم الصغيرة. وفجرا، تبلل وجهه قطرات الندى وتهب عليه ريح الصبا. لقد انصهر بعناصر الطبيعة وتحول إلى أثير. إنه أنقى شخص في الشعر العربي، أنقى من الصحراء والهواء. لقد أصبح يعاشر الوحوش والغزلان بعد أن هجر الأهل والخلان. وراح ينشد القصائد التي خلدته معبرا عن جرح لا يندمل. وهكذا، تحول إلى أسطورة الأساطير في الآداب العربية. ألست وعدتني يا قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب فها أنا تائب عن حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب أتوقف الآن عند مادة بعنوان: قبر جان جنيه. فلماذا قبر جان جنيه وليس جان جنيه بكل بساطة؟ لأن قبره في مدينة العرائش بشمال المغرب هو الذي لفت انتباه مالك شبل وجعله يهتم بهذا الكاتب المنبوذ على الأصعدة والمستويات كافة. ويبدو أن جورج بوسكيه، مدير المركز الثقافي الفرنسي في طنجة، هو الذي قاده يوما ما إلى ذلك المكان لزيارة القبر: قبر غريب لرجل غريب في بلاد غريبة، ثلاث غربات دفعة واحدة. ولكن، هل حقا كان جان جنيه شخصا غريبا في أرض المغرب الخالد؟ أمر مشكوك فيه تماما. لا أحد غريب في المغرب. من المعلوم أن الكاتب الفرنسي الشهير توفي في باريس عام 1986، ولكنه رفض رفضا قاطعا أن يدفن في كل الأراضي الفرنسية. بالمناسبة، الشيء بالشيء يذكر. عندما زرت تطوان لأول مرة مع بعض الأصدقاء الأعزاء عشت لحظات سعيدة واقعية وفوق واقعية في آن: أي لحظات سريالية. كنا نتمشى على غير هدى حتى وجدنا أنفسنا فجأة منخرطين في شارع القصر الملكي. وقد سحرني هذا الشارع بالمعنى الحرفي للكلمة وأخرجني عن طوري، ليس فقط بسبب القصر، وإنما أيضا بسبب طرازه المعماري القديم الجديد على الطريقة الإسبانية الأندلسية. تسحرك الصور والألوان والتطريزات والأصوات التي تملأ الشارع، بالإضافة إلى أشياء أخرى بهيجة يعجز قلمي عن وصفها. حقا، إن المغرب مصهر للحضارات. أحسست بأني دخلت في عالم ألف ليلة وليلة. وفجأة، تجد نفسك أمام المركز الثقافي الفرنسي: آندريه مالرو. ومن خلفه، تتراءى لك الجبال على الضفة الأخرى من الوادي، في منظر خارق يتجاوز حتى الشعر. لقد عشت لحظات وردية في ذلك الشارع وأتمنى أن أعود إليه مرة أخرى لكي أفهم السر وأعيش نفس الأحاسيس الأسطورية. وهل الحياة إلا لحظات تسرق من عمر الزمن سرقة؟ وأخيرا، سوف أختتم بهذه المادة الاستفزازية جدا عن الاستشراق. سوف أحرق أعصابكم مرة أخرى بوساطة مصطلح آخر غير التنوير. ولكن، هل هما شيئان مختلفان أم شيء واحد؟ يقول مالك شبل بلهجة معاكسة تماما للهجة إدوارد سعيد: أريد أن أقدم كل آيات الشكر والثناء للعلماء الأوروبيين الذين كرسوا حياتهم كلها لدراسة الشرق العربي أو الإسلامي. أريد أن أرفع لهم التحية لأنهم درسوا تراثنا دراسة علمية تاريخية. لقد قدموا كبرى الخدمات لتراثنا العربي الإسلامي الكبير. ولا زائد لمستزيد..
↧