بدت المجتمعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حالة من الاستقرار النسبي خلال العقدين الماضيين، وإن لم تكن ديمقراطية بالضرورة. ولقد حافظت بعض الأنظمة القائمة على وضع سياسي مستبد، مسيطرة على الاحتجاجات الشعبية التي كانت تندلع بين الفينة والأخرى عن طريق القمع أو الإصلاحات السطحية. وما كان لأحد أن يتوقع انفجار عدد من الدول العربية وانهيار الأنظمة القائمة فيها بتلك الصورة المذهلة كما حدث عام 2011. كذلك لم يتوقع احد التغيرات الجيو-استراتيجية الواسعة النطاق التي أعقبت ذلك، والمتمثلة أساسا في الإطاحة برؤساء دول واندلاع حروب، وما نتج عنها من أزمات إنسانية واقتصادية. ولقد اتسمت دول الثورات العربية عموما بالفوضى، وفي أحوال كثيرة بالعنف، بعدما كانت تتسم بسيادة الديكتاتوريات والطغاة. واليوم تشهد سوريا أشنع أعمال عنف ارتكبها رئيس دولة ضد شعبه في التاريخ الحديث. وتعم ليبيا الفوضى على نطاق واسع مع حلول نظام شبه قبلي محل مؤسسات، كانت تشكل ما يسمى «دولة». أما مصر فظلت في مرحلة انتقالية يشوبها الاضطراب وعنف الشارع لما يربو على ثلاث سنوات. وحتى في حالات النجاح النسبي مثلما حدث في تونس واليمن، ما زالت هناك عراقيل تعترض سبيل معالجة المشاكل الاجتماعية المتجذرة والاقتصاد الراكد. وبناء عليه، تحوّل الكثير من التفاؤل الذي عبّر عنه المتابعون في بداية ما يسمّى بـ«الربيع العربي» إلى الحذر، بل واليأس أحيانا. إلا أن الدكتور مروان المعشّر، نائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي، ظل متشبثا برؤيته التفاؤلية لمستقبل المنطقة واختباره لبعض السيناريوهات المستقبلية المحتملة، بدلا من التركيز على دور العوامل التاريخية في حالة الاضطراب الحالية التي تعم المنطقة. وذكر في كتاب أصدره أخيرا تحت عنوان «الصحوة العربية الثانية: المعركة من أجل التعددية» أن انتفاضات عام 2011 «نتاج حراك سياسي شبابي يهدف إلى بناء مجتمعات تعددية وديمقراطية». يطغى تمسّك المعشّر بقيم الليبرالية والتعددية على نصّ الكتاب وصيغته، وهو يحثّ القارئ على الإيمان بقدرة الجيل العربي الجديد على بناء المجتمعات التي يصبو إليها إن هو اختار النهج الجامع - أو الاستيعابي - بدلا من النخبوية، والتزم بالحقوق الفردية والمدنية بديلا عن الاستبداد. وقد يقول النقاد إن رؤية المعشر مفرطة في التفاؤل، وربما كانت مثالية طوباوية، حتى في استبعاد تحققها. وهنا يمكن الإشارة إلى مفكرين آخرين أشاروا مرارا إلى أن الثقافة السياسية والمشاكل الاقتصادية المتجذّرة قد تؤدي إلى المزيد من الفوضى والاضطراب. بل إن بعضهم يشكك أساسا في قدرة العرب على إحداث التغيير في مجتمعاتهم. وحقّا، يتميز كتاب «الصحوة العربية الثانية: المعركة من أجل التعددية» عن غيره من أدب «الربيع العربي» برؤيته المستقبلية واختباره لبعض السيناريوهات المستقبلية المحتملة، بدلا من التركيز على دور العوامل التاريخية في حالة الاضطراب الحالية التي تعم المنطقة. ولقد كان بمقدور المعشر، بالفعل، أن يوجه المزيد من الاهتمام إلى أثر أحداث ووقائع مثل اتفاقية سايكس - بيكو عام 1916، والتحديات التي واجهتها الدول التي أنشأتها الاتفاقية في بناء مجتمعات تعدّدية. بيد أنه اختار بدلا من ذلك التأكيد على التعدّدية باعتبارها «ضرورية لإرساء أسس المؤسسات الديمقراطية». من أهم محطات الفترة التي تلت الاضطرابات الحادة عام 2011، مباشرة، انتخاب حكومات إسلامية في عدة دول عربية. وكان ذلك أمرا ملحوظا ليس لأنها المرة الأولى التي تنظم فيها انتخابات حرة ونزيهة إلى حد كبير، فحسب، بل لأن تلك الحكومات الإسلامية عكست طبيعة الأنظمة السياسية القائمة. وهنا يتبنى المعشّر الرؤية ذاتها التي نجدها لدى الغالبية في ما يتعلق بنجاح الإسلاميين، وهي أن الثقافة السياسية لتلك الدول قبل ثوراتها سمحت للجماعات الإسلامية بتكوين الزخم لملء فراغات الخدمات الاجتماعية في النظم السابقة. واستجابت الجماهير العربية لتلك الجهود مقارنة إياها بتقاعس الحكومات الفاسدة وغير الخاضعة للمساءلة وكذلك النخب الحاكمة. يقول المعشر في كتابه «إذا ما انفتح النظام السياسي، سيحشد الإسلاميون الدعم الشعبي كاملا». ولكن تحول الإسلاميين من المعارضة إلى مناصب الحكم في عدة دول عربية بعد عام 2011 لم يحقق لا التعددية ولا السياسات الجامعة ولا احترام حقوق الفرد، كما لم يضمن الانتقال السلمي للسلطة. ثم إن الممارسات السياسية بعد 2011 كشفت أن التزام القوى الإسلامية، وبعض القوى العلمانية أيضا، بمبادئ الديمقراطية كان سطحيا. وعلى الرغم من أن الكتاب نشر بينما كانت «ثورة 3 يوليو (تموز)» - على حكم الإخوان - تتكشّف وتتبلوّر، يذكر المعشّر في مقدمة الكتاب أن تلك الثورة الثانية تشير إلى أهمية اعتماد التعددية على مستويات المجتمع كافة، ويقول «في مصر تصرف كلُّ من الإسلاميين والعلمانيين، على حدّ سواء، على أساس الأغلبية، ومبدأ أن (الفائز يحصد كل شيء). ثم في اتهام موجه إلى القيادة الانتقالية الحالية، يذكر أنه بينما استغل الإسلاميون تحت حكم الرئيس مرسي التابع للإخوان المسلمين فترة حكمهم لتمرير دستور لا يحظى بشعبية كبيرة، فإن بعض العلمانيين في السلطة حاليا ينكرون حقوق الإسلاميين كقوى سياسية». من ناحية أخرى، على الرغم من أن تفاؤل المعشّر بشأن بعض الدول الأخرى في المنطقة مثل الأردن والمغرب - والتي شهدت احتجاجات محدودة عام 2011 أعقبتها سلسلة من الإصلاحات السلمية - يبدو مفهوما فإنه من الصعب تجاهل درجة تفاؤله بشأن مستقبل بعض البلدان العربية الأخرى مثل مصر. وهو يصرّ، على الرغم من كل التحدّيات أمام التعدّدية والنظم الاجتماعية السياسية الشاملة التي ظهرت في فترتي مصر الانتقاليتين، على القول إن «الصحوة العربية الثانية» نقطة تحول تاريخية. صحيح أن بعض الممارسات السياسية التي تلت أحداث 2011 كانت تاريخية، منها الانتخابات التعددية والنزيهة نسبيا، وتكوين لجان مستقلة للإشراف على تلك الانتخابات، لكن حتى هذه الإصلاحات السياسية الكبيرة لا تستطيع بمفردها تغيير الثقافة السياسية في بلدان العالم العربي. ولذا، خصّص المعشر جزءا كبيرا من كتابه لبحث التغيرات المجتمعية والسياسية الضرورية لبناء القيم التعدّدية في مجتمعات ما بعد «الربيع العربي». كذلك، خصّص المعشّر فصلا كاملا من الكتاب للإصلاح التعليمي، وصرّح لـ«الشرق الأوسط» في هذا الشأن، قائلا «العالم العربي اليوم في أمسّ الحاجة إلى نظام تعليمي يؤهّل لتطوير نظام قيم قوي ومتماسك، بالإضافة إلى تشجيع التفكير النقدي البنّاء وترسيخ أهمية تقبل الاختلاف واحترامه». وأضاف المعشّر أن «الاتجاهات المتعدّدة التي انبثقت من أحداث 2011 لم تجد بعد قالبا فكريا يجعل منها وسائل لترويج وترسيخ قيمها ومبادئها الديمقراطية والتعددية». فالحركات التي تقود الحراك الشعبي في العالم العربي أكثر تلاقيا حيال ما تعارضه منها أكثر مما تؤيّده. وكان موقف المعشّر تجاه التدخل الخارجي في المنطقة، والغربي منه على وجه الخصوص، انتقاديا جدا منذ أحداث 2011، مما جعل صوته منسجما نسبيا مع التفكير العام ومعظم المواقف تجاه الاضطراب الحاصل في العالم العربي. وينتقد المعشّر بشكل خاص تسرّع بعض المتابعين والخبراء العرب والأجانب في وصف الانتفاضات الشعبية التي تفجّرت عام 2011 بـ«الربيع»، ثم تعجّلهم وصفها بـ«الشتاء العربي» بعد فشل الثورات في التحوّل مباشرة إلى عملية ديمقراطية ناجحة ووقوعها في نوع من الركود السياسي. وفي حوار المعشّر مع «الشرق الأوسط» أوضح في هذا النطاق أنه «لا يمكن أن تكتمل عملية التحول الديمقراطي بدول العالم العربي في غضون ثلاث سنوات. لقد استغرق الغرب قرونا قبل تطوير مؤسسات ديمقراطية تشاركية. وبالتالي من غير المنطقي توقع تحوّل البلدان العربية إلى دول ديمقراطية بين عشية وضحاها في منطقة لم تعرف الديمقراطية قط».
↧