عندما كان موسى نعيم في عمر الستة والثلاثين، تم تعيينه وزيرا للتنمية في الحكومة الفنزويلية المنتخبة الجديدة. كان ذلك في فبراير (شباط) من عام 1989. لكن ما إن أمضى الشاب نعيم وقتا قصيرا في منصبه الجديد، حتى هبت في العاصمة كاراكاس موجة عاصفة من الاحتجاجات الشعبية التي أشعلتها الخطة الاقتصادية التقشفية التي أعلنتها الحكومة، والتي تقضي برفع سعر الوقود، وتخفيض حجم المساعدات الحكومية. يقول نعيم «لقد صدمنا بحجم العنف والفوضى.. البرنامج الاقتصادي الإصلاحي اتخذ معنى مختلفا. بدل أن يرمز إلى الأمل والازدهار، نُظر له كمصدر للعنف في الشارع، الفقر المتزايد، واللامساواة العميقة». ماذا يعنى كل هذا؟ هذا ما يشرحه نعيم، الصحافي الشهير ورئيس التحرير السابق لمجلة «فورين بوليسي»، في كتابه الجديد «نهاية القوة». بعد أن جرب العمل كوزير يقول نعيم إن هناك «فرقا بين القوة الفعلية والمتخيلة.. اعتقد الناس أن لدي قوة هائلة للتغيير، لكن في الواقع كانت لدي قدرة محدودة فقط على توزيع الموارد، وتحفيز الأفراد والمنظمات، وبشكل عام، على إنجاز الأشياء». حتى الرئيس البرازيلي السابق فيرناندو إنريك، الذي أعاد القوة والحياة للاقتصاد البرازيلي، يعترف في لقاء له مع نعيم، ويقول «كنت دائما متفاجئا لاعتقاد الناس أنني قوي. حتى الأفراد المطلعون والمحنكون سياسيا يأتون إلى مكتبي ويطلبون مني إنجاز بعض الأشياء ظنا منهم أن لدي قدرا هائلا من القوة، وهو ما لا أملكه فعلا»، ثم يضيف هذه الملاحظة المهمة «الفجوة بين قوتنا الحقيقية وبين ما يتوقعه الناس منا، هو أكبر وأصعب مصدر للضغط الواقع على رئيس الدولة الذي عليه إدارته». انتهت القوة إذن من يد الزعماء والوزراء والحكومات، وأصبحت «ضعيفة، متنقلة، ومقيدة». ويعود السبب، كما يقول نعيم، إلى التغيرات المتسارعة في عالمنا اليوم، والتي تحولت فيها موازين القوى التقليدية بسبب البنوك والشركات الضخمة، ومنظمات حقوق الإنسان النشيطة، ومواقع التواصل الاجتماعي المزدهرة، والمؤسسات الإعلامية المزعجة، وغيرهم من اللاعبين الصغار الذين أصبح من الصعب تجاهلهم. يحدد نعيم ثلاثة أسباب أساسية أدت إلى هذا التغير في القوة. أولا تزايد عدد السكان والأشياء في العالم (وفرة في كل شيء: الناس، الأسلحة، الأدوية، الهواتف، دور العبادة.. كل شيء أصبح كثيرا).. ثانيا سهولة تنقل الأفكار والناس.. ثالثا تغيرات عميقة في توقعات وعقليات الجماهير عنها في السابق. لا يهتم الكاتب بالحديث السائد عن انتقال القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، كما أنه يرفض المصطلحات القديمة مثل القوة الناعمة المتمثلة بالثقافة، أو القوة الخشنة المتمثلة في الجيوش الجرارة.. كلها فقدت هيبتها. لكن السؤال المهم هو: القوة بيد من الآن؟.. يجيب المؤلف: «ليست بيد أحد إطلاقا». وأصبح لها ملمح واضح: من السهولة الحصول عليها، من الصعب استخدامها، ومن السهل جدا خسارتها. يضرب نعيم مثلا بما حصل في ثورات «الربيع العربي» حيث أسقطت الجماهير الغاضبة رؤساء مثل مبارك وزين العابدين بن علي والقذافي. ولكن ربما تفسير نعيم بأن القوة «سهل الحصول عليها، وصعب استخدامها، ومن السهل خسارتها» ينطبق أيضا على حكومات ما بعد «الربيع العربي». حكومة الرئيس المصري محمد مرسي الهزيلة خسرت قوتها بسبب الواقع الجديد الذي نعيشه الآن، أو واقع مفهوم القوة الجديد الذي لا يبدو أن أحدا يملك مفاتيحه. يشير نعيم إلى أن أزمات العالم الاقتصادية، مثل الأزمة المالية، والسياسية، مثل مأساة الثورة السورية، تحدث بسبب تراجع القوة التي كان تملكها الحكومات في السابق. العالم وصل إلى أضعف حالاته، ولم يعد بمقدوره القيام بأعمال جماعية فاعلة. وأحد الأسباب يعود إلى أن الحكومات الغربية باتت في أغلبها مقسمة داخليا وغير قادرة على اتخاذ قرارات كبيرة يعارضها البرلمان. مثل ذلك ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يواجه الرئيس أوباما معارضة شرسة من الحزب الجمهوري. لكن هذا الانقسام، هو من أعراض تلاشي القوة وتنقلها بين أيدي مجموعة من اللاعبين الذين لا يتفقون على شيء. يتضح ذلك أيضا في مجال المال والأعمال. وصول الشخص إلى هرم إحدى الشركات العملاقة كان يعني في السابق أنه سيبقى لوقت طويل، لكن الحال تغير منذ سنوات، ولم يعد هؤلاء يملكون القوة القديمة. 80 في المائة من المديرين التنفيذيين الجدد تم إبعادهم من مناصبهم في السنوات القليلة الماضية. الشيء نفسه ينطبق على المؤسسات العسكرية والدينية والإعلامية، وحتى الرياضية. لكن من جانب آخر، هناك جوانب إيجابية لتلاشي القوة نهائيا. فتح الباب أمام ملايين الصغار والفقراء والسياسيين والناخبين والمخترعين لتحقيق أحلامهم ورفع أصواتهم. لقد بات العالم أكثر انفتاحا والمنافسة أكثر اشتعالا وحدة والفرص أكثر قربا. كتاب نعيم يقدم الكثير من الأرقام التي تكشف عن التحولات في طبيعة القوة، لكن الفكرة الرئيسة الذكية لكتابه لا تنجح في تفسير بعض مظاهر القوة التي ما زالت بيد اللاعبين الأساسيين مثل الحكومات. الحكومة الصينية أكثر قوة الآن من أي وقت مضى، واستطاعت أن تصعد بالاقتصاد الصيني لمستويات نمو غير مسبوقة، وأخرجت أكثر من 400 مليون صيني من خط الفقر. حكومة الرئيس أوباما كانت اللاعب الأساسي الذي أسهم في إنعاش الاقتصاد الأميركي الذي يعود تدريجيا إلى صحته، كما أن أوباما دفع بقانون التأمين الصحي رغم معارضة الجمهوريين له. وفي ما يتعلق بسوريا، فإن العديد من المحللين السياسيين يؤكدون أن التردد في استخدام القوة، وليس ضعفها أو نهايتها، هو الذي أطال عمر النظام السوري. ولم يكن من المتوقع أن يطاح بالقذافي لولا مشاركة قوات الناتو التي قادتها الولايات المتحدة والقوى الغربية. رغم ذلك ينجح «نهاية القوة» في تفسير الكثير مما يجري في عالم اليوم الذي يحتار المتابع في مظاهره المتشابكة التي تبدو أحيانا مثل الألغاز.
↧