على مدار سنتين متواصلتين راح جيل كيبل يجوب العالم العربي طولا وعرضا من مشرقه إلى مغربه لكي يفهم ما حصل، لكي يرى بأم عينيه تلك الثورات العارمة والثوار. كان يريد أن يطرح أسئلة من النوع التالي: ماذا حصل لشعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي رفعها الشباب الذين دشنوا الربيع العربي؟ أعتقد أن جيل كيبل مفتون بالعالم العربي، وهو يرى فيه، ليس وحده بل جيله كله، صورة أوروبا قبل مائتي سنة عندما كانت لا تزال في طور الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر الحداثة. وبما أنه أحد ورثة فلاسفة التنوير الكبار من أمثال فولتير ومونتسكيو وروسو وكوندورسيه الخ فإنه يرى فينا طفولة أوروبا أو بالأحرى طفولة الحداثة في بدايات انطلاقتها الأولى. وبالتالي فهو يفهم نفسه وحضارته بشكل أفضل إذ يهتم بنا ويدرسنا ويكرس عمره لنا. فانفجارات الربيع العربي تذكره حتما بالثورة الفرنسية وبقية الثورات الأوروبية وكل تلك الاختلاجات الهائجة والمخاضات الهائلة والآلام. أقول ذلك على الرغم من الفارق الهائل بين الثورة الفرنسية والانتفاضات العربية. فالأولى تمخضت عن نظام مدني علماني ديمقراطي حديث في نهاية المطاف، هذا في حين أن الثانية تمخضت عن نظام أصولي أو إخوان مسلمين! يضاف إلى ذلك أن كتب الرحلات إلى الشرق كثيرة جدا في الاستشراق الفرنسي بالمعنى الإيجابي العالي لكلمة استشراق. إنها ممتدة على مدار العصور منذ أيام فولني وحتى العصر الراهن مرورا بفلوبير ولامارتين وجيرار دو نيرفال.. على مدار سنتين متواصلتين إذن راح جيل كيبل يجوب العالم العربي طولا وعرضا من مشرقه إلى مغربه لكي يفهم ما حصل، لكي يرى بأم عينيه تلك الثورات العارمة والثوار. كان يريد أن يطرح أسئلة من النوع التالي: ماذا حصل لشعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي رفعها الشباب الذين دشنوا الربيع العربي؟ ولماذا سرقت الثورة من بين أصابعهم وقطفت ثمارها حركات الإسلام السياسي، التي كانت مترددة في البداية ولم تركب الموجة إلا بعد بضعة أيام من اندلاع الثورة. وبالتالي فليست هي من دشنت الانتفاضات العارمة وإنما شباب وشابات خرجوا بخفي حنين في نهاية المطاف. وهذا يعني أن حركة التاريخ قد تتمخض عن شيء معاكس للهدف التحريري الأولي المتوخى منها كما يقول هيغل. فالمليارات قد تفعل فعلها وكذلك رواسب التاريخ المتراكمة والماضي الانحطاطي الذي لا يمضي. لكن المليارات لا تصنع حضارات! تلزم عقول مستنيرة وتوجهات تقدمية مستقبلية، لا ماضوية رجعية. ولكن هل لولا فساد هذه الأنظمة الشمولية البوليسية وعقمها واستبدادها كنا قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من كوارث وفواجع؟ أقول ذلك وأنا أفكر في الحالة السورية التي فاقت كل التصورات من حيث ارتكاب الفظائع المرعبة من كلتا الجهتين كما يقول جيل كيبل. ولكن المسؤول الأول عن المآل المخيف الذي وصلنا إليه هو النظام الحاكم بطبيعة الحال. لماذا لم يعرف كيف يستدرك الانفجار، كيف يستبق الإعصار؟ لماذا لم تحصل الإصلاحات في الوقت المناسب؟ لماذا لجأت أجهزته فورا إلى الحل البوليسي والإجرامي القذر؟ لا يمكن كبت شعب بأسره إلى ما لا نهاية كالشعب السوري. لا يمكن وضعه في الثلاجة إلى الأبد. كان واضحا أنه سينفجر بين لحظة وأخرى بعد طول احتقان. كل هذا ينبغي تصحيحه والاعتذار عنه إذا ما أردنا لسوريا الموحدة أن تستمر. وإلا فلتحكم كل فئة مناطقها والسلام عليكم! كفى تدميرا وقتلا! هذا هو الحل الوحيد، على الأقل حتى تكون النفوس قد هدأت والعقول قد استنارت. إذا كنتم تريدون تحاشيه لأنكم مرعوبون من شبح التقسيم فينبغي أن يحصل إجماع وطني بين كافة التيارات الفكرية - السياسية من سلطة ومعارضة ما عدا الجماعات التي تتبنى الأفكار الطائفية صراحة أو ضمنا. كل ما نرجوه هو أن لا يكون قد فات الأوان.. ولكن المشكلة أعقد من ذلك في الواقع بكثير. إنها آتية من أعماق التاريخ البعيد. تاريخ بأسره يتفجر الآن أمام أعيننا كالزلزال أو البركان.. تاريخ التعصب الطائفي الأعمى الذي دمر أوروبا سوف يدمر العرب أيضا قبل أن يولدوا من جديد. هذا هو ثمن النهضات أو الانطلاقات الكبرى. لا نهضة من دون تفكيك أو تعزيل، لا تعمير من دون تدمير. وعلى أنقاض الماضي العتيق ينهض المستقبل الوليد. شكرا لديكارت العظيم و«مقال في المنهج». شكرا للعبقريات الفلسفية! مللنا من تلك المقالات الصحافية السطحية التي تنثال علينا يوميا من دون أي فائدة. وبالتالي فالمشكلة أكبر من الجميع حكاما ومحكومين. وقد خرجت عن حد السيطرة تماما. وسوف تجرفنا كلنا في تيارها الهادر كما يجرف السيل العارم كل ما أمامه. نحن حطب المرحلة المقبلة، نحن وقودها. فالمشكلة التراثية إذا ما انفجرت حرقت في طريقها الأخضر واليابس.. بعدي الطوفان! حقا إن آلام الشعب السوري وبقية الشعوب العربية تجسد آلام البشرية حاليا. وهذا هو المعنى الثاني لعنوان الكتاب. الشعب السوري العظيم يدفع الآن فاتورة الخلاص المخضبة بالدم. إنه يدفع ضريبة التحرر الباهظة وثمن المخاض العسير نيابة عن الأمة العربية كلها. فنساؤه الحرائر أصبحن سبايا أو خادمات عند الشعوب! من يستطيع أن يتحمل مسؤولية كل هذا الدمار؟ سوريا كلها تحولت إلى أنقاض.. ثم هناك سؤال آخر هام يطرحه جيل كيبل وهو: لماذا نلاحظ أن الصراع المذهبي السني - الشيعي هو في طوره لأن يحرف هذه الثورات عن مسارها الصحيح؟ فقد كانت في البداية ثورات من أجل العدالة والحرية فإذا بها تتحول إلى «جبهة نصرة» و«قاعدة» وتفجيرات عشوائية إجرامية وهيجانات طائفية مدمرة. إذ أقول ذلك فإنه لظلم وخطأ فادح أن نختزل الشعب السوري الكبير إلى مجرد هؤلاء. ولكنهم موجودون على الأرض بقوة ويمثلون مشكلة حقيقية تمنع انبثاق سوريا الجديدة. بل إنهم سيؤدون مباشرة إلى تقسيم سوريا بفتاواهم التكفيرية وتفجيراتهم الإرهابية التي أرعبت العالم وشوهت صورة الإسلام لعشرات السنين المقبلة. وهنا تكمن مشكلة لاهوتية ضخمة تتجاوز سوريا بكثير. بل وتتجاوز العرب لكي تشمل الإسلام كله. وهي مشكلة القرن الحادي والعشرين من دون أدنى شك مثلما كانت الفاشية أو الشيوعية التوتاليتارية مشكلة القرن العشرين. هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها جيل كيبل بشكل مباشر أو غير مباشر في كتابه المشوق والهام. لحسن الحظ فإن جيل كيبل تحاشى تلك النزعة الباردة الجافة واللاإنسانية للعلوم الإنسانية! فلكي يثبت أحدهم علميته أو موضوعيته فإنه يحشو كتابه حشوا بالجداول الإحصائية والمعادلات الرياضية. كم صدمت بذلك عندما وصلت إلى باريس في أواسط السبعينات من القرن المنصرم. كم شعرت بالانزعاج والقرف من العلم والعلماء! كنت أجد أمامي مؤلفات ضخمة لا ماء فيها ولا حياة ولا إحساس عاطفي ولا اهتزاز لآلام الإنسان المبرحة. أهذا هو العلم أم أنه إفرازات حضارة ميكانيكية تكنولوجية فقدت روحها وجوهرها؟ لحسن الحظ فإن هذه الموجة البنيوية المتغطرسة والإمبريالية انتهت. أقول ذلك على الرغم من أن فيها بعض النقاط الإيجابية من حيث الدقة الموضوعية ولكنها بالغت وأسرفت. ولهذا السبب انصرف القراء عن تلك الكتب التي تتحدث عن الإنسان وكأنه «روبو» أي إنسان آلي لا إنسان حقيقي من لحم ودم. على العكس راح كيبل يطلق لسجيته وموهبته الأدبية العنان فنتج عن ذلك كتاب خاطف يجذبك إلى قراءته جذبا من البداية حتى النهاية. هذا لا يعني أنه غرق في الشطحات الصوفية والابتعاد عن مادية الواقع! لا، ولكنه عرف كيف يربط الخاص بالعام، والتقرير الصحافي الميداني بالجذور التاريخية الإسلامية والماضي البعيد. لقد عرف كيف يربط الآني الراهن، بالمدة الطويلة للتاريخ كما يقول بروديل. وهنا تكمن فوائد النزعة الأكاديمية والتخصص العميق. فمن دون ذلك لا يمكن إضاءة الموضوع ولا يمكن تجاوز الكتابة الصحافية المتسرعة والسطحية عموما. شكرا للصحافيين المحترفين وألف شكر ولكن كلامهم لا يكفي لفهم الظواهر الكبرى وإنما يبقينا على عطشنا وجوعنا. كان أستاذنا أركون يتحدث عن أهمية المنهجية التقدمية - التراجعية التي تدرس الماضي على ضوء الحاضر، والحاضر على ضوء الماضي. وكان يلوم العلوم السياسية على أنها تحصر منظورها بشريحة زمنية قصيرة لا يمكن أن تؤدي إلى إضاءة المشكلة من جذورها، بكل أبعادها. فمن دون هذه المنهجية الأركيولوجية لا يمكن أن نفهم سبب انفجار الصراعات الطائفية التي تكاد تدمر المنطقة وبالأخص الصراع السني - الشيعي ولكن أيضا الإسلامي - المسيحي. يكفي أن نلقي نظرة على حالة مصر. في الواقع أن هذا الشيء كان متوقعا ولا يمكن أن يفاجئ إلا السذج أو العميان. أنا شخصيا كنت أرى ذلك مقبلا بأم عيني منذ ثلاثين سنة على الأقل. ولا يعني ذلك أني عبقري أو متنبئ العصور الحديثة. فالحمار كان يدرك ذلك. ولا أعرف لماذا أكون أكثر غباء من الحمار الذي أكن له كل مشاعر الاحترام والتقدير لأنه كان صديق طفولتي.
↧