«أميركا أعطتني الفرصة وأعترف لها بفضلها. إلا أنني في أعماق أعماقي رجل من لبنان، وحقيقتي الكيانية هي هويتي اللبنانية. ولو لم يكن لبنان بلدي لما عرفت من أنا».. في هذه الجملة البسيطة والعميقة في آن واحد، يوجز البروفسور فيليب سالم عقيدته الحياتية، التي تتمحور حول تمسكه الشديد بجذوره شديدة المحلية في لبنان في الوقت ذاته الذي يسطع فيه نجمه كأحد رواد وعمالقة علاج السرطان في العالم. وبين ارتباط شديد بالهوية وما فرضه نجاحه من ديناميكية عالمية، وثراء الحياة الذي شمل اتصال بنوابغ العلماء والانفتاح على مجتمعات مختلفة، ونظرته إلى السياسة، سواء الداخلية اللبنانية أو تلك الدولية المتعلقة بها وبالمنطقة على وجه العموم.. خرجت سيرتان متواليتان لفيليب سالم. السيرة الأولى صدرت بالإنجليزية عن دار «Quartet Books Limited» البريطانية في عام 2012، وهي بعنوان «السرطان والحب وسياسة الأمل.. حياة ورؤية الدكتور فيليب سالم» (Cancer, Love and the Politics of hope.. the life and vision of Philip A. Salem MD). وكتبها الصحافي بطرس عنداري، ابن قضاء الكورة في شمال لبنان،وهي المنطقة التي تحدر منها فيليب سالم. وعاش عنداري أغلب حياته مغتربا بدوره في أستراليا، حتى وفاته في مايو (أيار) 2012، وشاركت عنداري في الكتاب، الذي جاء في نحو 314 صفحة من القطع المتوسط، الصحافية النيوزيلندية فرانسيس موراني. أما السيرة الثانية، فصدرت بالعربية في نحو 300 صفحة عن دار «الساقي» اللبنانية في العام الحالي، وأعدتها الصحافية اللبنانية مهى سمارة، وعنونتها «فيليب سالم.. الثائر والعالم والإنساني». جاءت السيرة الإنجليزية في 3 أقسام، تناولت في أولها حياة سالم منذ ولادته في عام 1941 ونشأته في قرية بطرام بقضاء الكورة، مرورا برحلته العلمية التي بدأها في الجامعة الأميركية ببيروت وبوادر تكوين شخصيته واصطباغه بالسياسة.. وصولا إلى توجهه لأميركا وتخصصه في علاج السرطان، ونبوغه في ذلك المجال. وفي القسم الثاني، استعرض المؤلفان عددا من المقالات الافتتاحية المختارة مما كتبه سالم لصحيفة «النهار» اللبنانية بين عامي 1992 و2007، مع تعليق على كل مقال.. من حيث ظروف كتابته وتوقيته. وتظهر المقالات رؤية سالم السياسية والاجتماعية الناضجة والعميقة كمفكر لا يقل بحال عن سياسيين متمرسين. وتظهر المقالات اطلاع سالم الموسع على أحوال لبنان والعالم العربي بتفاصيله وآلامه.. وعلى الرغم من الشعور فور قراءتها بمباشرة وصدقية سالم، فإنها تفصح عن قدرته على التشخيص ووصف العلاج، ربما متأثرا في أسلوبه بدراسته وتخصصه كطبيب حاذق في علاج السرطان لسنوات طويلة، وهو الأمر الذي قاله سالم شخصيا عن كتاباته، عازيا جزءا من صراحته وجراءته لامتهانه الطب، الذي يستوجب الالتزام بالحقائق والوقائع. وفي القسم الثالث من السيرة الإنجليزية، عرضت مختارات من أحاديث سالم والمقابلات التي أجريت معه منذ عام 1992 وحتى عام 2010. وتم تقسيم المواضيع بهذا القسم تحت 5 فروع بحسب مواضيعها، بين ما يختص بلبنان، والعرب الأميركيين، وحقوق الرعاية الصحية، وما يتعلق بالسرطان والطب والحياة، وأخيرا إصلاح التعليم في العالم العربي. وهو ما يشير إلى اتساع قاعدة سالم المعرفية والثقافية، واهتماماته العريضة بكل المناحي المتصلة بدوائر حياته، من البلد الأم إلى الطب إلى الأفق الأكبر في المواطنة العربية. أما السيرة العربية، فصدرتها الكاتبة مهى سمارة بتقديم شرحت فيه سفرها إلى أميركا للقاء سالم، ثم عودتها إلى لبنان، وتتبعها خيوط حياته من قرية بطرام، وجلساتها الطويلة مع أفراد من عائلته ومعارفه، واستقصائها للمعلومات سواء في القرية أو بيروت أو الجامعة الأميركية. واشتملت السيرة على 5 أقسام، لكنها اهتمت بشكل أكبر باستعراض حياة سالم بقدر موسع من الموضوعية، مع عرض ثري لمراحل تطورها وتحليلات لما تأثر به وأثر فيه منذ ميلاده وحتى الآن. وفي القسم الأول، عرضت الكاتبة المرحلة الأولى من حياة سالم، تحت عنوان «المنزل الأول».. الذي تناول ميلاده في 13 يوليو (تموز) عام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية، بالتزامن مع دخول القوات البريطانية والفرنسية الحرة إلى لبنان وسوريا الواقعتين تحت سلطة حكم فيشي المتعاون مع ألمانيا النازية آنذاك.. مع وعود بالتحرير. وتتطرق الكاتبة إلى أن ظروف ميلاد سالم، واعتقال القوات الفرنسية لوالده، عقب أسابيع من ولادته بتهمة «الإعجاب بهتلر»، لمدة نحو شهرين، ربما شكلت أول بواعث اهتمام سالم بالسياسة وتجذر الانتماء الوطني لديه لاحقا.. خاصة بعد أن تحولت قرية بطرام, في تلك الفترة لما يشبه «أمما متحدة افتراضية». بعد وجود جيوش لكل المتقاتلين بالحرب العالمية الثانية، على حسب وصف إيلي سالم (شقيق فيليب الأكبر، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية اللبناني لاحقا في عام 1982) في مذكراته. وفي القسم الثاني، تناولت الكاتبة رحلة سالم التعليمية، «من مقاعد المدرسة إلى البحث العلمي»، بحسب ما عنونت الفصل. متتبعة مسيرته التي بدأت من مدرسة ابتدائية محلية، والتي أظهر خلالها نبوغا مبكرا، ثم التحاقه بـ«كلية التربية والتعليم الإسلامية»، وهي مدرسة ثانوية تقع في طرابلس، حيث عاصر ما سمي وقتها بـ«حمى المرحلة الناصرية» (نسبة إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر).. قبل انتقاله لاحقا إلى «إنترناشونال كولدج» في بيروت.. وهي المرحلة التي شهدت تشكيل أول دوائر «غربة» سالم عن محيطه الأم في بطرام، وجارتها طرابلس، واندماجه السلس مع ذلك التطور. وينتقل سالم إلى الجامعة الأميركية، حيث خبر أول تردد عملي في حياته لاختيار اختصاصه.. بين ميول تتجاذبه إلى الفلسفة وأخرى إلى دراسة الطب، لكن نصيحة أخيه الأكبر إيلي الذي تولى لاحقا منصب وزير الخارجية في لبنان، وقريبه الدكتور شارل مالك، وجهته نحو كلية الآداب والعلوم، كما ألزمه وعد سابق قطعه لأمه بدراسة الطب. وفي سنوات الدراسة الجامعية، أظهر سالم نبوغا علميا، إلى جانب نواة «ثورية» متمردة على نمطية أساليب التدريس، وبداية خبرة سياسية، إلى أن تخرج طبيبا واعدا في عام 1965. وبعد الانتهاء من التدريب عام 1968، قرر سالم التوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية للتخصص في علاج وأبحاث السرطان، وذلك في أهم مركز وقتها؛ ميموريال سلون - كيترينغ في نيويورك.. وهناك، اعتصرت سالم آلام الانسلاخ عن الوطن، والقفز إلى المجهول. حيث سيطرت عليه أجواء التشاؤم واليأس، خاصة لانشغاله في تلك الفترة بمرض أخيه الأصغر كمال. ولكن مثابرة سالم ودأبه الدراسي، جعلاه لافتا للبروفسور دافيد كارنوفسكي، أحد أشهر وأنبغ الأطباء، ومؤسس معالجة الأمراض السرطانية بالدواء الكيمائي في أميركا.. مما أدى إلى تقريب كارنوفسكي للتلميذ النجيب، وتكليفه بمهام متابعة المرضى أكثر من زملائه، ثم تطور الأمر إلى أن تبنى كارنوفسكي سالم مهنيا وأصبح بمثابة الأب الروحي له. وفتحت العلاقة لسالم آفاقا متعددة، فبخلاف نهله من نبع علم أستاذه، أثرت شخصية كارنوفسكي ذاتها في سالم، إذ كان البروفسور نفسه يهوديا روسيا مهاجرا، مما شكل جزءا من وحدة المسار.. إلى جانب كون كارنوفسكي (بحسب رأي سالم) «أستاذا في الطب من طراز رفيع، وإنسانا كبيرا وشخصية عالمية ملمة بالعلوم كافة بشتى أنواع المعرفة، وليس السرطان وحدة». وتطورت العلاقة بين الرجلين بعد أن تبين إصابة كارنوفسكي ذاته بالسرطان، وثقته في سالم ليصبح طبيبه المعالج. وكذلك زيارته إلى منزل سالم في بطرام، في طريقه إلى إيران لتأسيس مركز لعلاج السرطان برعاية الشاه (آنذاك) محمد رضا بهلوي. وقبيل وفاته، أوصى كارنوفسكي خيرا بتلميذه، وأرسله لمتابعة الدراسة في مستشفى إم دي أندرسون في هيوستن بتكساس.. وهناك تولاه الدكتور إميل فراي بعنايته، وشهدت هيوستن نجاحات متوالية لسالم، وتكوينه لعلاقات جيدة مع مشاهير العالم من خلال عمله معهم. ثم عاد سالم إلى لبنان، لمدة 16 عاما (من 1971 إلى 1987)، وهو ما تناوله الكتاب في قسمه الثالث. وتزامن ذلك مع سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما آلم سالم كثيرا، إضافة إلى خيبة أمله إزاء الفارق الهائل بين الإمكانات في وطنه الأم وفي أميركا، والعقبات و«العقليات» المحلية. لكن صداماته مع إدارة الجامعة، ورحيل والدته لاحقا، وتحذيره من استهدافه بالخطف، واستمرار حوادث القصف المجنون، كلها حوادث متراكمة أدت إلى قرار سالم بمغادرة لبنان والتوجه لأميركا مجددا. وتكشف سمارة في كتابها عن أن سالم هاجر إلى أميركا مكرها، نظرا لتداعيات الحرب.. لكنه استقر ليحقق أحلامه التي لم يستطع إليها سبيلا في وطنه. وذلك في القسم الرابع من الكتاب.. إلا أن ذلك لم يمنعه يوما من زيارة سنوية لبلدته الصغيرة، حيث يلتقي الأهل والأصدقاء والمرضى.
↧