حين أحاول أن أستذكر أول كتاب تصفحته، وأثر بي في حياتي، تختلط علي أوراق كتب قليلة شاءت الظروف أن تضعها في يدي. ماذا يجد من كتب، فتى نشأ في بيت فقير بائس، لا أحد فيه يعرف القراءة، وفي مدينة ليست فيها مكتبة عامة، ومدرسة لا تحوي سوى الكتب المقررة، ولا ترتاح كثيرا لما تسميه بالكتب الخارجية؟ أحيانا أعد قراءتي للقرآن، وحفظي لبعض من آياته في «بيت ملا» غير بعيد عن بيتنا الطيني في مدينة هيت، وأنا في سنوات دراستي الابتدائية الأولى.. هي تجربتي الأولى مع كتاب مهم مؤثر! لكني أتذكر أن هذا الملا وكان كفيف البصر مسنا عليلا، يجعلنا ننفق وقتا معه نهفي له في مراوح من الخوص، ونكش الذباب عن وجهه ورجليه، حتى ينام أكثر مما ينفقه معنا في تعليمنا، أو تفسير شيء لنا. ومع ذلك أتذكر أن جزالة العبارة القرآنية، وفخامتها، كانت تحاول اجتذابي حتى الآن! لا مفر للكثيرين من محبي القراءة أو الأحلام الرومانسية من جيلنا، من المرور بالفترة المنفلوطية، قرأت معهم «العبرات» و«ماجدولين» وغيرهما من الترجمات المحورة على يد المنفلوطي؛ بما يلائم مزاجنا الشرقي، وقد شحنت خيالي بشجنها، وآلامها وآمالها المحطمة! أسلمني المنفلوطي بكل لطف وسلاسة لمحمد عبد الحليم عبد الله لأقرأ له «بعد الغروب» و«لقيطة» و«شجرة اللبلاب»، وغيرها من رواياته الرومانسية الحالمة بلغتها الرقيقة الحزينة الناعمة! كنت لا أزال في المدرسة المتوسطة، عندما قدم لي صديق هو جار لنا أيضا، كتابا سميكا ما إن فتحته حتى تهت بين صوره الملونة، وموضوعاته الشيقة، والمثيرة، وعبقه القديم المنعش، كانت أعداد من مجلة «المصور» المصرية، كان الشقيق الكبير لصديقي يجلبها من بغداد، وقد قام بتجليدها بشكل أنيق! وجدتني أجول في واحة خضراء ندية بعد هجير جاف في مدينتي، فصار هذا الصديق والجار الكريم؛ يمدني بمجلدات أخرى من «آخر ساعة» «الكواكب» ثم «الهلال» و«الرسالة» فكنت أسهر معها الليالي جائلا على صفحاتها في زوايا الحياة الثقافية، والسياسية في مصر، وبلدان عربية مختلفة. أرى وجوه شعرائها وزعمائها، معالمها قصورها وحدائقها وشوارعها، أماكن الجد واللهو، حتى إنني حين حللت في السنوات الأخيرة في القاهرة كنت أشعر؛ وكأنني قد تجولت في شوارعها، وحاراتها في طفولتي، بل أحيانا أحس، وكأنني كنت أعيش هنا، وفي مدينتي بنفس الوقت، ولم يكن يفصل بينهما لا بحر ولا وصحراء ولا حدود! لم أعد أتذكر أي إنسان طيب أعارني رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ؛ فالتهمتها في يوم وليلة، قدم لي أحدهم، رواية قصيرة لدستويفسكي اسمها «نيتوتشكا»! أتذكر غلافها الجميل الصغير، وكان من مطبوعات حلمي مراد، أعارني آخر رواية «البؤساء» لفيكتور هيكو، لا تزال شخوص هذه الروايات تعيش في وجدان طفولتي الذي يسايرني وأنا أخطو إلى النهاية، ولا أتذكر «نفيسة»؛ إلا وأحس برعشة جارحة في القلب لمصيرها الأليم! وإذا أتلمس نوازعي اليوم أجد أن هذه المجلدات من المجلات المصرية المكتنزة بالكثير من الموضوعات والصور المتنوعة، والجو القرآني والروايات الأدبية هي التي جعلتني اليوم مشطورا أو منقسما بين عالمين: عالم الصحافة بما يحتوي من حياة صاخبة وصراعات محتدمة وتجليات غريبة، وعالم الأدب بما فيه من نبض عميق لروح الإنسان، وبوح خفي حميم يكاد يضيع تحت الصخب اليومي! وأجدني اليوم موزعا في كتابتي بين المقال الصحافي الذي أراه ضروريا تحت تأثير وهم أو حقيقة، مشاركة في التأثير على مجرى الحياة ومصائر الناس، وبين كتابة القصة والرواية التي هي تقارب الناس في معاناتهم العميقة؛ إزاء ثوابت الحياة الكبرى، ووجودهم الهش القلق سريع الزوال! ما زلت أقارب لغة الصحافة الواضحة المباشرة الدقيقة، بنفس القدر من الذي أقارب فيه لغة الأدب التي تحتمل الظلال والغموض والتهويمات المحتمة! لا أجد غضاضة في المزج بين اللغتين، أو استعمالهما متوازيتين، فكل منهما لها طاقة خاصة للاقتراب من الحقيقة وكنه الأشياء في مسارها أو انكفائها، ورحلتها نحو أطوار أخرى أكثر بهاء وجمالا. * قاص وروائي عراقي، له أكثر من خمسة عشر كتابا، منها «صفارات الإنذار» مجموعة قصص، (بعد مجيء الطير) مجموعة قصص، (المرآة)، مجموعة قصص، «طفل السي إن إن» رواية، «الانحدار»، رواية «التيه في أيس» مجموعة قصص، «لارا زهرة البراري» مجموعة قصص، «قصة حب لزهرة الأوركيديا» مجموعة قصص. ترجمت له قصص إلى الإنجليزية والألمانية والدنماركية والنرويجية.
↧