يولد الطفل في كنف العوائل «الميسورة» وهو يلهو ويعبث بالعلب الخاوية والدمى المتراكمة هنا وهناك، بينما ولدت أنا وترعرعت في عز عائلة يغوص أفرادها في بطون الكتب والمجلدات التي تفترش وتحتل عشرات الرفوف المرصوفة على جدران غرفة واسعة المساحة، فتستهويني ألوان تلك الكتب المجلدة بعناية ودقة، وهي تزدهي فوق تلك الرفوف العالية، فأروح ألهو وألعب وأقلب في أوراقها، والوالد الأديب الكبير والصحافي المعروف، يطرب وهو يرقب تعلقي بالكتب بديلا عن الدمى المهشمة والمتناثرة في غرف الإخوة الأربعة، فيشير علي بقراءة كتب عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وكرد محمد علي وجبران خليل جبران والتغني بأشعار شوقي وإيليا أبو ماضي والرصافي وغيرهم. تعلقت في سني ما بعد الدراسة الابتدائية، بكتابين هما «رسائل من والد إلى ولده» لخير الدين يكن، و«الأدب العصري في العراق العربي» لأبي: رفائيل بطي، وكان لهما تأثير كبير في مسيرة حياتي، إذ جعلني الأول، أحاول تقليد المؤلف في تضمين جملة الرسائل المتبادلة بيني وبين الوالد أثناء وجودي خارج الوطن لغرض الدراسة، وهي رسائل تربوية لي من أب خبير، والثاني، أعانني في غور سبل المعرفة والبحث الجاد في الكتابة. لم يدر في خلدي، أن تعلقي بالكتابين المذكورين وأنا ألج ميدان الكتابة لاحقا، أنهما سيجعلاني أسهب في تأليف ما ينيف على خمسة عشر كتابا، تتناول السيرة والمذكرات وتدوين تاريخ الصحافة العراقية، إلى جانب طبع ثلاثة أجزاء من كتابي (الوجدان)، وإخراج جزأين من كتاب «رفائيل بطي – ذاكرة عراقية»، وبالأخص، كتابي الأخير الصادر قبل أسابيع الموسوم بـ«عراقيون في الوجدان» الذي يحكي وجهة نظري من الناحية الوجدانية عن ثلاثين شخصية عراقية، عسكرية وسياسية وثقافية معروفة خدمت الوطن، فأعطى هؤلاء له حبا، بقدر ما أعطاه الوطن لهم من وجدان. إن مهنة الصحافة هي مهنة البحث عن الحقيقة وليست البحث عن المتاعب كما يحلو للكثيرين أن يصفوها، وكل من يتخذها مهنة شريفة له، يجد نفسه وهو يسرع الخطى لأن يكون حارسا على تلك الحقيقة، وخير معين للصحافي الناجح، هي الثقافة، وخصوصا باللغة الأجنبية إلى جانب لغة الأم. وهذا ما دفعني إلى التمسك بالكتاب أينما ذهبت، سواء في غمرة العمل الإعلامي، أو في خضم النشاط السياسي، فالكتاب هو خير جليس للمثقف المنتج في كل الأوقات والأزمان. ولهذا، تشكلت لدي مكتبة تضم الكثير من مذكرات الساسة العراقيين والعرب والأجانب، والكثير من كتب التاريخ القديم والحديث، أبرزها كتاب الحاكم المدني للعراق بعد الاحتلال بريمر، وهو كتاب يعطيك الدليل عن خبايا السياسة وخطرها، على يد جهلة السياسة. وحكايتي مع الكتاب، أي كتاب، تنبع من حق هذا الكتاب علي في مسيرة العطاء لهذا الوطن، منذ أن زودتني مكتبة الوالد في شارع الزهاوي بمنطقة الأعظمية بالزاد المعين، إلى أن حاولت السياسة، كما هو معروف، إبعادي عنها كجزء من متطلباتها، إلا أني بت أكثر التصاقا وولعا بالقراءة، لأنها أضافت إلي إضافات في عناوين السياسة وخباياها، في حلوها ومرها، وهي بحر من آلاف الصفحات الواجب تتبعها للوقوف على الوجه الناصع للحقيقة، كل الحقيقة، نتلقاها، لنمنحها بدورنا إلى المتلقي في كل وسائل المعرفة إيفاء منا، لدين في أعناقنا. * كاتب ومؤرخ صحافي، يلقب بـ«عميد الصحافة العراقية». صدر له أخيرا «عراقيون في الوجدان» ومن أعماله الأخرى: - «الصحافة العراقية، ميلادها وتطورها»، «صحافة العراق، تاريخها وكفاح أجيالها»، «صحافة تموز وتطور العراق السياسي»، «صحافة الأحزاب»، «أعلام في صحافة العراق»، «الموسوعة الصحافية العراقية»، «الصحافة اليسارية في العراق»، «كتاب الصحافة العراقية في المنفى»، «أبي»، «الخيانة الكبرى»، «قضايا صحافية»، «الوجدان» بمجلدين.
↧