لا أتصور أن هناك كتابة أدبية دون قراءة، فالقراءة أم شرعية للكتابة، وعندما اكتشفت القراءة وسحر العوالم المعرفية التي فتحت لي أبوابها على مصاريعها أدركت أني دخلت مغارة «علي بابا» العامرة بالكنوز، لذلك لا أنسي البداية التي أشرقت مع أحداث سياسية كثيرة في مطلع خمسينات القرن الماضي، خاصة بعد محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954، فقررت قراءة الصحف للتعرف على الحقيقة، ولفتت نظري مقالات طه حسين وكامل الشناوي وفكري أباظة وإحسان والخميسي وغيرهم، فجأة تفجر بداخلي غرام بالمعارف والكتب مصدرها الأول فتوجهت إليها حيث تكون.. استعرت واشتريت وسرقت ونقلت ثم لجأت إلى عشة الدجاج فوق سطوح بيتنا، وكانت غرفة غير مكتملة، فطردت الدجاج وحولت الغرفة إلى صومعة. قرأت كتاب «الأيام» لطه حسين، وتوفيق الحكيم و«ألف ليلة وليلة»، وعشرات الروايات المترجمة والروايات البوليسية، وقرأت كتبا عن سير الأعلام مثل الإسكندر ونابليون ومحمد على وصلاح الدين والرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسيح، وعلي وعمر وإخناتون ورمسيس. قرأت كل الأدب الروسي تقريبا، شعرا ونثرا، وقرأت كذلك الأدب الفرنسي والإنجليزي، وأعجبني طاغور حتى أدمنته، ثم جبران، ومع الأيام استولى علي شوقي وحافظ وإبراهيم ناجي والشابي وأحمد رامي وبيرم التونسي وجاهين.. في بعض الأيام كنت أقرأ عدة كتب صغيرة في اليوم، وكان أمناء المكتبات يدهشون كيف أستعير الكتب وأعيدها في اليوم التالي وأستعير غيرها لأعيدها سريعا بعد الانتهاء منها. ترسخ في ذهني أن الشعراء والكتاب هم عيون وقلب الحياة.. هم من يجب اقتفاء آثارهم.. هم النور والعلم والمستقبل والفكر.. كلما قرأت كتابا أبصرت أكثر ومضيت أفكر فيما قرأته وأبني عليه، وكنت أغفل عن الطعام والشراب والنوم وتزداد عزلتي وتطول الساعات التي أقضيها بين الكتب حتى بدأت هواياتي الأخرى تتراجع تدريجيا لتسمح للقراءة بأن تحتل كل الوقت، حتى انبثقت الحاجة إلى التعبير. كتبت في البداية خواطر وتعليقات خاصة ومبتكرة من وحي ما قرأت، ثم انتقلت إلى الشعر العامي والفصيح وحصلت على بعض الجوائز في المسابقات. قرأت كل كتب مدينتي بنها، ولما سمعت بسور الأزبكية قررت ادخار كل مصروفي الشخصي طوال الأسبوع ويصل أحيانا إلى خمسين قرشا لأسافر إلى هذه السوق، مع حرصي على تجنب المحصل في الذهاب والعودة، لأن قرشا ينفق على غير الكتب تبديد مرفوض.. أسرع فور عودتي بالانقضاض على ما حملت من الكتب حتى أنتهي منها مساء الخميس فأمضي مع شروق شمس الجمعة إلى القاهرة لأشتري مجددا غذائي الأسبوعي. في أوائل الستينات أحسست أن الشعر لا يعبر عني تماما ويدفعني حبي للبسطاء والمهمشين كي أكتب عما تمور به نفوسهم، فانتقلت إلى القصة القصيرة تلك البلورة المشعة ونشرت أول قصة وعنوانها «الفوج القادم» بجريدة «المساء» عام 1966، وشجعني الدكتور محمد مندور وغيره من النقاد لتتوالى القصص والجوائز، وأتراجع عن الاستمرار في إعداد رسالة الماجستير في الفلسفة بعد أن قطعت معها شوطا كبيرا، فقد خامرني إحساس عميق مثل ما خامر نجيب محفوظ بأن الأدب هو طريقي، لكن السؤال المهم ظل يقتحمني، وهو: ما الذي يمكن أن أضيفه لجيلي ولمن سبقني من حيث الشكل؟ كانت الرومانسية والواقعية بدرجاتها والتسجيلية والانطباعية والتاريخية هي المذاهب السائدة، ولأنني أدرك أن اختيار شكل بعينه للتعبير من خلاله عن الموضوع ليس مجرد رغبة أو توجه قصدي، وإنما هو نتيجة لانصهار فكر وتجربة ومعاناة ومعايشة وثقافة وشعور، فقد رأيت الانتظار حتى ينبثق هذا الشكل من التجارب المتعددة التي يتعين أن أسلم نفسي لها منصتا برهافة لما تنوي العزف عليه أو الغناء له. عندما اجتاحت إسرائيل سيناء ومدن القناة عام 67 استولت علي رغبة ملحة كي أكتب رؤيتي القصصية عنها فكتبت روايتي الأولي «أشجان» التي بدأتها بحماسة وفوجئت بكل شخصية من الشخصيات تختطفني نحوها لأكتب عنها وحدها، ثم تختطفني الثانية فالثالثة، وهكذا خرجت رواية تسمى «رواية الأصوات»، ولم أكن قرأت من هذا النوع غير رواية الرجل الذي فقد ظله لفتحي غانم، ثم ظهرت رواية «ميرامار» لمحفوظ في الاتجاه ذاته. وفي عام 78 أعلن السادات عزمه تغيير مادة الرئاسة في الدستور لتكون له مدى الحياة فظللت قلقا حتى كتبت رواية «السقف» التي تصور سقفا يضغط على سكان بيت بالتدريج حتى يدخلوا من الأبواب في انحناء وتتعدد صور الانكسار، رواية «روح محبات»، وبطلها ديك جميل نما وكبر حتى أصبح في حجم إنسان دفعته ذكورته لمضاجعة النساء. رحبت به نساء القرية حتى أنجب منهن جميعا ولما اكتشف الرجال آثاره في المواليد طاردوه وتتوالى الأحداث. وهكذا مضت الموضوعات تختار أشكالها وما أنا إلا عاشق مطيع. وفي سياق هذه الرحلة، أعكف حاليا على كتابة رواية تاريخية لأول مرة عن عصر محمد علي. * قاص وروائي مصري
↧