كتابان صدرا باللغة الإنجليزية خلال العام الماضي (2012) يقدمان نماذج من القصة المصرية القصيرة ومتوسطة الطول إلى قارئ الإنجليزية، وبذلك يمثلان إضافة مهمة إلي الترجمات السابقة ويسهمان في وضع أدبنا القصصي على الخريطة العالمية. الكتاب الأول هو «العودة إلي الوطن: ستون سنة من القصص المصرية القصيرة» (مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة) من اختيار وترجمة وتقديم دنيس جونسون -ديفيز. وهذا المترجم (كندي المولد) القدير قد نقل إلى الإنجليزية أكثر من 30 عملا من الأدب العربي – ما بين رواية وقصة قصيرة وشعر ومسرح – بما استحق معه أن يعد – على حد تعبير إدوارد سعيد – المترجم الأول للأدب العربي إلى الإنجليزية في عصرنا. بدأ هذا النشاط حين أصدر في 1946 ترجمته لمختارات من قصص محمود تيمور، وما زال يواصل عمله في الترجمة حتى اليوم (انظر كتابه «حياة في الترجمة» عن تجاربه وذكرياته في هذا المجال). من بين القصص التي يتضمنها الكتاب: «أبو عرب» لمحمود تيمور، «أم العواجز» ليحيى حقي، «غروب الشمس» لشكري عياد، «الصورة» للطيفة الزيات، «حمال الكراسي» ليوسف إدريس، «الرجل الذي رأى باطن قدمه اليسرى في مرآة مشروخة» للطفي الخولي، «سيلفيا» لأحمد العايدي، «بيت لأولادي» لمحمود دياب، «مكان تحت القبة» لعبد الرحمن فهمي، «التهمة» لسليمان فياض، «كلب» لحمدي الجزار، «زيارة» لجمال الغيطاني، و«أربع أقاصيص» لمحمد المخزنجي (الذي يحظي بنصيب الأسد في هذه المختارات) و«الأب والابن والحمار» لصبري موسى، «الصفارة» لعبد الحكيم قاسم، «أمسية أخرى في النادي» لأليفة رفعت، «الساعة» لخيري شلبي، «الأم» لإبراهيم شكر الله، «العطش» لمحمود الورداني. ويقول المترجم في مقدمته إنه حين بدأ يترجم أقاصيص تيمور في منتصف خمسينات القرن الماضي، لم يكن هناك ناشر بريطاني أو أميركي متحمس لنشر أي ترجمة من الأدب العربي الحديث. بل إن الحكومات والهيئات الثقافية العربية لم تأبه لأن تشتري نسخة واحدة لمكتباتها من ترجماته. أما الآن فقد تغير الوضع كثيرا. ظهرت كادرات جديدة من المترجمين الأكفاء، وأصبحت مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة تخرج قرابة 15 كتابا مترجما في كل عام. وصار من حق المترجم أن يحصل على عائد مادي محترم. وواكب ذلك اتساع في رقعة التعبير: خاصة عند الكتابة عن الجنس أو وظائف البدن (يذكر جونسون - ديفيز أن محمود تيمور اعترض على نشر قصة ليوسف الشاروني، لأن فيها حمارا يتبول في الطريق ويحدث بوله شكلا على التراب!)، كذلك زاد عدد ممارسات هذا الفن بين النساء بعد أن كن قلة نادرة تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن قصص الكتاب جميعها، وإنما حسبي أن أنوه بثلاث منها: «الرجل والمزرعة» ليوسف الشاروني (المولود في 1924) قصة محكمة البناء الهندسي على نحو فائق، تجمع بين الصنعة الفنية الكاملة والاهتمام الإنساني الذي يمد مظلة تعاطفه إلى الآباء والأمهات والأبناء على حد سواء (انظر تحليلا لهذه القصة من مجموعة الشاروني «رسالة إلى امرأة» في كتاب يحيى حقي «خطوات في النقد»). و«الجد حسن» ليحي الطاهر عبد الله (1942 - 1981) ذات مذاق صعيدي صميم، تنم على موهبة في الحكي ينفرد بها هذا القاص الذي توفي - قبل أن يكتمل عطاؤه - في حادث سيارة. لقد تمكن أمثال يحيى الطاهر وسعيد الكفراوي ومحمد البساطي ومحمد مستجاب ومحمد روميش وعبد الحكيم قاسم من أن يحققوا حلم يوسف إدريس؛ «تمصير» القصة القصيرة ونقلها من مرحلة التأثر بتشكوف وموباسان وإدجار بو إلى تقاليد القص المحلي في القرية والمدينة. و«القاهرة مدينة صغيرة» لنبيل نعوم جورجي (المولود في 1944)، وهو مهندس عمل في الولايات المتحدة الأميركية وتأثر بكواباتا وبورخس والتراث الصوفي العربي. إنها قصة قوطية توفي على الغاية في رسم الجو واستخدام اللغة على نحو إيحائي يتسم بالقصد في التعبير. هنا مهندس قاهري يقع في حب فتاة غجرية ترعى الأغنام في حديقة أمام بيته (قارن موقفا مشابها في رواية نجيب محفوظ «قلب الليل»). وينتهي الأمر بأن يعدمه قومها في الصحراء الشمالية الغربية من مدينة القاهرة على نحو شبيه بما يحدث لجوزيف ك. بطل كافكا في خاتمة رواية «المحاكمة». والكتاب الثاني الذي أريد أن أتحدث عنه هو «حكايات المواجهة: ثلاث روايات مصرية قصيرة»، من تأليف يوسف إدريس (مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة) وترجمة الدكتور رشيد العناني. والمترجم هو أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة إكستر البريطانية. له باللغة العربية كتاب «المعنى المراوغ» (وهو مجموعة مقالات نقدية) وكتاب «عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته» وكتاب «حصاد القول» (وهو يضم مقتبسات من روايات نجيب محفوظ وأقاصيصه وأحاديثه الصحافية) وكتاب «نجيب محفوظ: قراءة ما بين السطور»، فضلا عن مقالات كثيرة متفرقة عن كولردج، وإزرا باوند، وقاموس «المورد»، وتوفيق الحكيم وغير ذلك من المواضيع. وله بالإنجليزية كتاب «نجيب محفوظ: البحث عن المعنى»، وكتاب «نجيب محفوظ: حياته وعصره» وكتاب «تمثيلات عربية للغرب: مواجهات الشرق والغرب في القصة العربية» (لندن ونيويورك، الناشر: رتلدج 2006). وقد ترجم إلى الإنجليزية رواية محفوظ «حضرة المحترم»، وشفّعها بدراسة تحليلية مدققة. كما ترجم إلي الإنجليزية مسرحية ألفريد فرج «على جناح التبريزي وتابعه قفة» تحت عنوان «القافلة». يضم كتاب «حكايات المواجهة» ثلاث قصص متوسطة الطول (نوفيلا) لإدريس، تغطي الفترة من أواخر خمسينات القرن الماضي حتى أوائل ثمانيناته. وهذه القصص هي: «سره الباتع» (1958) «السيدة فيينا» (1959) «نيويورك 80» (1980). والكتاب، كما هو واضح من عنوانه، يجمع بين أعمال تشترك في خيط واحد هو خيط المواجهة بين الشرق والغرب، وما تولده من تفاعلات وتوترات. إنه خيط ممتد في أدبنا العربي منذ مطلع القرن الـ19 حتى يومنا هذا؛ تجده بصور مختلفة في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» للطهطاوي، و«الساق على الساق» للشدياق، و«حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، و«الأيام» و«أديب» لطه حسين، و«عصفور من الشرق» للحكيم، وبعض أزجال بيرم التونسي، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«جسر الشيطان» لعبد الحميد السحار، و«الساخن والبارد» لفتحي غانم، و«أصوات» لسليمان فياض، و«الشاطئ الآخر» لمحمد جبريل، و«محاولة للخروج» لعبد الحكيم قاسم، و«شيكاغو» لعلاء الأسواني و«بروكلين هايتس» لميرال الطحاوي وغيرهم. والمواجهة في هذه الأعمال تتخذ عادة شكل رحلة يقوم بها رجل عربي أو امرأة عربية من الشرق إلى الغرب، حيث يقع في حب امرأة أو رجل غربي. وكل طرف يمثل ثقافته المغايرة لثقافة الآخر. ويوسف إدريس (1927 - 1991)، بما يشبه الإجماع النقدي، هو أمير القصة العربية القصيرة، مثلما أن محفوظ هو أمير الرواية. وكاتب هذه السطور لا يشارك النقاد رأيهم في إدريس، فهو يراه كاتبا متفاوت المستوى على نحو بالغ، له روائع لا تنكر مثل بعض أقاصيص «أرخص ليالي» و«جمهورية فرحات» و«حادثة شرف» و«لغة الآي آي» و«قاع المدينة» و«بيت من لحم». ولكنه - في غير ذلك - لا يعدو أن يكتب نوادر مسلية، أو يصور مواقف مسطحة يعوزها العمق، فضلا عن عيوب لغته وافتقارها - في أحيان كثيرة - إلى الجمال الفني، وإن لم تفتقر إلي الحيوية. والواقع أن إدريس - كما كتبت عنه في موضع آخر - هو طفل النقد الأدبي المدلل. لقد دلّله النقاد - مع استثناءات قليلة - وأسرفوا في تدليله. نحن نتكلم وكأنه الكاتب الأوحد للقصة القصيرة وننسى أن نجيب محفوظ كتب قصصا قصيرة لا تقل أهمية عن رواياته (رائعته «زعبلاوي» مثلا) وتتفوق على أي شيء كتبه إدريس. وهناك أقاصيص أخرى ليحيى حقي وإدوار الخراط وشفيق مقار ويوسف الشاروني وسليمان فياض وغالب هلسا وزكريا تامر، لا تقل عن قصص إدريس، وأحيانا تتفوق عليها. والكتاب الراهن برهان على ما أقوله هنا: فهذه القصص متفاوتة المستوى على نحو بالغ، وليس فيها ما يمثل إدريس في أحسن أحواله. «سره الباتع» و«السيدة فيينا» قصتان متوسطتا المستوى تحملان - ولا شك - لمحات من موهبة إدريس - أو عبقريته إن شئت - ولكنهما لا تمثلان وحدات عضوية متكاملة. أما «نيويورك 80»، فهي بالغة الرداءة على نحو مؤكد، تمثل الهوة التي كان ينحدر إليها هذا الكاتب في بعض الأحيان. وحتى الناقد الراحل عبد الرحمن أبو عوف - وكان من أشد المتحمسين لإدريس - لم يملك إلا أن يدينها. على أن الكتاب يغطي جانبا من إدريس لم ينل حقه من الدراسة حتى الآن، ويلفتنا إلى تعدد اهتماماته ورغبته في ارتياد آفاق جديدة. والترجمة - مثل ترجمة دنيس جونسون - ديفيز - ممتازة، تنم على كفاءة واقتدار. هذان كتابان جديران بالاقتناء، نتطلع إلى أن نرى صداهما عند أدباء الإنجليزية ونقادها، ودارسي القصة العربية من غير العرب.
↧