يطرح الدكتور جورج قرم في مقدمة كتابه «حكم العالم الجديد» سؤالا أساسيا ليستفيض في دراسة معمقة للإجابة عن جوانب المسألة كافة. هل العولمة حتمية؟ هو، أولا، يرى أن الحديث عن عولمة الاقتصاد والمجتمعات وصيرورتها نحو «الإجمالية»، بمعنى دمج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد العالمي الإجمالي عبر تحرير الأسواق، بات مألوفا منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وبتنا نرتوي بتفاهات رتيبة همّها الحديث عن متطلبات العولمة وضرورة التأقلم معها. حتى إن ثمة دليلا تقنيا معتمدا في تقويم درجة اقتصاد ما بالعولمة أعدته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يستند إليه في تصنيف البلدان وفقا لدرجة شمول العولمة لاقتصادياتها. قلما يطرح في هذه الأوساط التساؤل حول ما تمت عولمته: هل هي أصناف جديدة من العطور، أو مواد التنظيف، أو حفاضات الأطفال، أو السيارات، أو أصناف من الأطعمة المجلدة يتناولها المرء ويستمتع بها من دون معاناة في تحضيرها؟ أم هي المعرفة والتقنية اللتان تسمحان لكل المجتمعات بالمضي قدما والارتقاء بنحو أسرع على درب الرفاه والازدهار؟. كيف يتم جعل السلع المادية أو غير المادية معولمة؟ وبأي عصا سحرية، وبفضل أي جبابرة يقبضون بقوتهم الخارقة على العالم بأسره؟. وكيف السبيل إلى الحد من سلطاتهم الهائلة وإعادة شيء من الرشد والفلسفة الأخلاقية إلى النظام الاقتصادي المعولم بحيث نستطيع تحقيق التصحيح الفعال لانحرافات هذا النظام ومظالمه الأكثر ضررا؟ يرى المؤلف أن كل تأمل نقدي في وسائل الحد من مساوئ العولمة المتحققة لتفكيك آلياتها الأكثر ضررا، سيتوقف على مدى ملاءمة التحليلات التي تستثيرها مساعي توفير الأجوبة عن تلك الأجوبة. لقد كان بالإمكان تعليق الآمال على أن تؤدي الأزمة المالية والاقتصادية التي هزّت العالم منذ عام 2008 إلى إطلاق إصلاحات واسعة تحت ضغط مضاعفة الحركات الاحتجاجية، لكن شيئا من هذا القبيل لم يحصل لأن متخذي القرار وصنّاع الرأي لم يبرحوا يتباهون بحسناتها، كخلق «آليات سوق» جديدة بلا انقطاع، وما توفره من الربح السريع والمضاربات المالية. المستغرب، كما يرى الكاتب، أن هناك انعداما لفعالية الاحتجاجات، بخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما برهنت عليه الحركات الباحثة عن عولمة بديلة من حيوية على الرغم من أن الأزمة الراهنة كشفت النقاب عن أكثر ما في الإجمالية الاقتصادية من وجوه تصدم الضمير، ثم إن الأزمة نفسها، تماما على غرار أزمة عام 1929 من القرن الماضي، تجعلنا نتحسس اللامعقولية التي تتميّز بها عولمة من نوع معيّن. إن مواصلة إطلاق العنان لاستهلاك يشمل سلعا عبثية الطابع لا حاجة فعلية لها في الحياة إلا التباهي باقتنائها، ولـ«ابتكارات» مالية أكثر فتكا جرى تطويرها من قبل علماء أفذاذ في الرياضيات ممن وظفتهم المصارف المتخصصة في الاستثمارات لتزيد «سُميّة» المنتجات وعدواها، وتروج لها، كل ذلك ليس سوى رأس جبل الجليد لعملية تفكيك المجتمعات، وانهيار تماسك فضاءاتها الاجتماعية والاقتصادية والمالية. يرى المؤلف أنه بعيدا عن أي اعتبار أخلاقي ومعنوي متصل بالعدالة في توزيع المداخيل، فإنه من المناسب معاينة انهيار التناغم والتماسك في الفضاءات الاقتصادية التي تضم المجتمعات المتنوعة الآهلة بالكوكب. وليس هذا الانهيار في تماسك الفضاءات الاجتماعية الاقتصادية ظاهرة جديدة، بل هو ثمرة تفكك مزمنة لبنى المجتمعات، عملية بدأت مع فتح الأميريكتين وواصلها الاستعمار الأوروبي لأفريقيا ومناطق شاسعة من آسيا وأستراليا. في أعقاب العصر الاستعماري، ضاعفت الليبرالية الجديدة الظافرة من حجم هذه الحركة التفكيكية للبنى، عن طريق نزع الحمايات التي كانت لا تزال تضبط إلى حد ما تبادلات السلع والخدمات، وحركات الرساميل، وحركة الأفراد. وضمن هذا التيار الذي يبدو عصيا على الاحتواء، يتم تفكيك بنى المجتمعات وتفتيت الأسر بواسطة حركات هجرة واسعة المدى، ويجري انتزاع تدريجي لصلاحيات أجهزة الدولة الضامنة للفضاء الاقتصادي للمجتمعات، أو يجري إخضاع تلك الأجهزة في غالب الأحيان للمصالح الخاصة العائدة للمجموعات المستفيدة من العولمة وما تمارسه على قطاعات عريضة من الرأي العالمي من تأثير آيديولوجي ذي طابع ديني شبه كامل. وهذا يواصل تعميم العولمة اليوم، ما صنعته القرون السالفة من أعمال في تفكيك البنى الاجتماعية. وهذا في نظر بعضهم هو موضع الإعجاب والتملّق، أمّا في نظر البعض الآخر فهو مثار كره ومقاومة. يرصد المؤلف جملة التحليلات والوصفات والنظريات والكتب التي صدرت خلال السنوات الأخيرة لوصف ونقد أضرار العولمة الاقتصادية، ويعدد الكثير من هذه المؤلفات التي لا مسايرة فيها ليخلص إلى أن البعض قد استوحى المذهب الماركسي لمناهضة العولمة ومنددا تنديدا شديدا بالنظام الرأسمالي وبسياسات الغرب للسيطرة على العالم. بينما ركز البعض الآخر على العبث بموارد الكوكب وعلى آثار النزعة الاستهلاكية على العلاقات الاجتماعية و«جعل كل ما في العالم سلعة»، أو على سيطرة وسائل الإعلام على الأذهان. وأخيرا فقد انتفض بعض المؤلفين من أصحاب الجرأة الذين انتسبوا سابقا إلى النخبة الاقتصادية المسيطرة في وجه ما رأوه داخل النظام بالذات فنددوا به تنديدا شديدا مقترحين إجراء إصلاحات جوهرية قبل أن تنفجر الأزمة بالذات، وذلك بغية أن تكون للعولمة آثار إيجابية وليس آثارا مفككة فحسب. لا يحاول المؤلف استعادة تلك التحليلات، إنما يسعى إلى سبر العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكثيرة التي منحت حركة العولمة تلك القوة منذ نصف قرن. إن هذه الحركة تبدو اليوم غير قابلة للكبح، لا سيما أنها أصبحت تمسّ الكثير من البلدان الواقعة خارج النطاق الغربي، من قبيل تلك البلدان المسماة «ناشئة» أو «صاعدة» في جنوب شرقي آسيا، أو مجموعة كبيرة تقريبا من البلدان العملاقة الحجم بعدد سكانها كالصين والهند والبرازيل. من ناحية أخرى تبدو العولمة مندرجة بعيدا ضمن المنطق الحتمي للأمور إلى حد يجب معه عدم الاستغراب من أن الأزمة الاقتصادية لم تستطع منذ 2008 شيئا سوى إثارة مقترحات إصلاحية جزئية جدا ركزت بصورة أساسية على تحكم أفضل بالنظم المصرفية المعولمة. أما في الأوساط السياسية والأكاديمية، فلم يلاحظ المرء، عمليا، أي اتهام حقيقي لطبيعة العولمة وما اتخذته من أشكال، بل على العكس من ذلك جرت معالجة الأزمة، حصريا تقريبا، باعتبارها مشكلة تقنيات مصرفية ومالية ينبغي إصلاحها، أو ضبطها في أفضل الأحوال. فالحاضن الوحيد للمواجهة كان مؤتمر البيئة العالمي المنعقد بالدنمارك في ديسمبر (كانون الأول) سنة 2009 الذي اختتم بجلسة سادتها ممارسات تتصف بالفظاظة وقلة لياقة غير مألوفة.. وفيما عدا ذلك، فإن إجراء أي تعيين أو تحليل للأسباب الأولى التي أدت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية المتعاقبة، وخصوصا تدهور بيئة العالم المادية والإنسانية، يؤكد أن التفكير لا يزال، إلى حد بعيد، أسيرا لتنديدات متكررة رتيبة بأضرار النظام الرأسمالي والنيوليبرالي الذي أرسته حقبة مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأميركية. وذلك أن هذين القائدين هما اللذان دفعا آليات تحرير الأسواق إلى أقصى مدى، ودشنا استقالة الدولة من دورها في الرقابة والضبط. وبالمقابل، لم تتردد بعض المؤلفات ذات المحتوى الصائب في تركيز هجماتها باتجاه عالم المال في البورصات، والخداع الذي تمارسه النماذج الرياضية التي غزت العالم المالي، والإيمان الساذج بعصمة تلك النماذج. فهل من العبث إذن محاولة التفكير في إمكانية أن نضع قيد العمل، آليات من شأنها كبح العولمة والسماح التدريجي بإعادة تنظيم فضاءات اجتماعية اقتصادية تضمن مزيدا من التماسك والاستقرار لمختلف المجتمعات التي تسببت فيها الكوارث والتغييرات السريعة والعنيفة الناجمة عن موجة عولمة الأسواق وتحريرها في جميع أنحاء العالم؟ إن الأمر ملح مع أن غلاة أنصار العولمة والمستسلمين لنظامها يعتبرون أنه لا جدوى من ذلك. يرسم المؤلف بالخطوط الدقيقة خريطة الحجج وما يعاكسها في إطار النقاشات الحامية الوطيس الدائرة اليوم بين أنصار العولمة وأنصار العولمة البديلة. ويحصر المسائل المركزية التي تقوم عليها تلك النقاشات، وذلك عن طريق تعيين الافتراضات الفلسفية التي تحركها. فالمسألة تتعلق بخلافات فلسفية قديمة مزقت تاريخ أوروبا، حتى إنها شكلت عوامل حرب مخيفة، سواء أكان داخل المجتمعات الأوروبية أم فيما بين هذه المجتمعات ذاتها. لقد عانى الفكر الانتقادي من فقدان الثقة بسبب إخفاقات اشتراكية «الاتحاد السوفياتي» وانهياره. أمّا النماذج البديلة التي مثلتها الصين وفيتنام وكوبا فإنها لم تشكل نماذج تكفي جاذبيتها لتشكل مصدر إلهام للمدارس الفكرية التي تكونت لاحقا وكانت تنادي بالعولمة البديلة، في وقت طوى فيه النسيان الفكر النقدي الذي كان في فترة سابقة موضع تقدير بالغ في عالم الديمقراطيات الليبرالية، حين كانت المواجهة بين نظامين فلسفيين واقتصاديين متناقضين من أجل السيطرة على العالم. لقد مهدت هذه الفترة للفترة التالية، إذ إن انهيار أحد النظامين أتاح للآخر أن يجني لنفسه كل ما زُرع من قبل، ويستكمل بسرعة مهمة «بسط العولمة» التي بدأت عام 1492 مع وصول كريستوفر كولومبوس إلى أميركا. لقد أدى انتصار النظام الليبرالي والرأسمالي على النظام التوجيهي المتسلط المتذرع ببناء الاشتراكية إلى رضا ذاتي وقناعة عامين حقا، لا نزال تحت تأثيرهما على الرغم من سلسلة من أدبيات انتقادية للعولمة تميزت في أغلب الأحيان بمستوى رفيع، ولم تبرح النخبة الحاكمة للعالم تتجاهلها. وفي هذا السياق الجديد، يُنظر إلى جميع الذين يريدون ممارسة الفكر الانتقادي على أنهم مفكرون كئيبون وساخطون أبديون، لا تعيرهم وسائل الإعلام أي اهتمام، بينما تأقلم التعليم والإعداد الجامعيان، والأبحاث الأكاديمية بصورة سريعة مع امتثالية الفكر الجديدة. وقد شهد تعليم العلوم الإنسانية والاجتماعية انقلابا شاملا، وبخاصة تعليم الاقتصاد، بالترافق مع ظهور كثرة من المدارس والمعاهد للتجارة وإدارة الأعمال. هكذا تكون جيش من الشباب العاملين في سبيل «الإجمالية الاقتصادية» تحت سقف إيديولوجيا نيوليبرالية ظافرة، عديمة الثقافة تنتج يقينيات متزمتة. فعمَّ العزوف عن التفكير في مستقبل مغاير أو في حلول مبتكرة للمشكلات المجتمعية الكبرى، وأصبح أوسع أفق للنقاش هو في مشكلات البيئة والاحتباس الحراري، ثم يقفل النقاش على كل ما تبقى من قضايا بذريعة وجود نظام ليبرالي وديمقراطي أثبت تفوقه على سواه، فلماذا البحث، إذن، عن مشكلة لا وجود لها والمحافظة على أوهام فتاكة إلى ما لا نهاية؟ فوفقا لوجهة نظر النيوليبراليين المتعصبة، تكون أي عودة إلى جعل الدولة محركا للتغيير مجددا، سبيلا يشرع الباب حتما أمام شبح النظام الشمولي. تحت عنوان «تعاليم تجربة مكتسبة، على هامش السلطة المعولمة» يستعيد المؤلف بعض التحليلات التي كتبها منذ عقدين لفضح ما كان قد بدأ يظهر في فترة بسط فيها الاقتصاد النيوليبرالي الظافر هيمنته المتعاظمة على النظام الاقتصادي العالمي. ومحاضرته الشهيرة في معهد دراسات التنمية الجامعي عام 1996 التي بين فيها أهمية إنشاء الآليات المولدة لأشكال مختلفة من الإثراء ذي الطابع الريعي التي ليس لها أي علاقة بالتقدم المنجز في الاقتصاد الحقيقي، والتي رثى فيها «المعاني الضائعة» للاقتصاد السياسي بفعل اجتياح النماذج الرياضية لجميع فروع المعرفة الاقتصادية. وتجربته كوزير مالية في لبنان 1998-2000. كما يفرد فصلا يتحدث فيه عن التحول المخيف لنظم تعليم الاقتصاد تحت عنوان «الاقتصاد: سياسي أم علمي؟». كتاب علمي لا يقبل الاختزال، فلكل كلمة موقعها، وكل فكرة تتماسك بسابقتها ولاحقتها وتطالب بإعادة التفكير فيها من جديد وإعادة التشكيل كي تكون الحاضنة لعالم جديد.
↧