للذاكرة صوت، يتسلل أحيانا ليجس لحظتي الساكنة، وليستنفر ما فيها من سنوات ركضت طويلا في سوح القراءات وعوالم الكتب بحثا عن حقيقة هاربة دوما.. صوت الذاكرة صوت غامر، لأنه عميق، ولأنه ينفر أحيانا مثل طفل مسكون بلذة تكسير ألعابه المنزلية. لا يمكنني إلا أن أنصت إليه لأستعيد من خلاله صورا عابرة ولذات ظلت عالقة بسنواتي الغضة. ملامح الصور تتسلل مع الصوت، تدغدغني بالكثير من الشغف، وكأني فعلا أبحث عن لحظة حب مكسورة، أو إحساس بالحرية لم يجلب لي سوى المزيد من القلق.. تعلقت بهذه الصور وكأنها صور لأبطال منقذين، مثلما انشددت إلى صور لنساء ساحرات يخرجن من الكتب، وهن يتركن دفقا من عطورهن الباذخة عند حافات العمر. ما تركه جبران خليل جبران من صوت، كان عميق الغور في نفسي، أستعيده كلما أحسست بزحمة العالم الذي يركض بها كالعدائين، أو يضعني عند صخب فاجع.. كتاب «الأجنحة المتكسرة» كان ورطتي الأولى في تلمس كشوفات القصة المتخيلة، التي يختلط فيها الشعر بالحلم، وكشوفات أن أدرك أن العالم من حولي يحرضني على الهروب من يومياتي الكئيبة، لأكتشف عالما مغايرا، عالما مسكونا بحب صوفي يمكنه النفاذ إلى الروح، ويبيح لي أن أتخيل سحره، وأن أذهب بعيدا مع سوانحه بحثا عن الجمال والمعرفة. ما زلت أستعيد الكتاب وكأنه صورة غائمة للذة الساحرة، اللذة التي قادتني منذ الطفولة لاكتشاف جغرافيا اللغة بوصفها فنا جماليا وبناء تشكيليا، اللغة التي ظلت تصنع لي عالما لا أجده في الواقع، لكنه يمثل لي جرعة الاطمئنان التي لم أزل أعيش توهجاتها وبهاءها. أتذكر ليلة قراءته، وكأنها لصق لحظتي الآن، إذ كان اليوم التالي موعدا للامتحان النهائي في المرحلة الابتدائية، وكنت أجد نفسي مأخوذا بقلق غريب بين أن أقرأ كتاب الرياضيات، أو كتاب «الأجنحة المتكسرة» الذي اشتراه عمي من المكتبة وتركه على الطاولة. أخذني القلق الساحر إلى خيار أن أطير مع الأجنحة، حتى لو كانت مكسورة، وبالفعل سهرت للساعة الثالثة صباحا لأنهي قراءته، مع شعور بالطيران والامتلاء، والاستعداد لقراءة كتاب الرياضيات برغبة أكثر إثارة. هذا الكتاب صنع لي غواية التعاطي مع الكتاب، والانحياز إليها تماما، حتى بت أجد أكثر اطمئناناتي سعادة حين أكون في غابة الكتب، إحساس بالصيانة والوجود، وحتى بالأصوات التي تخرج من الكتب وكأنها أصوات لحيوات تخصني وتشاطرني إحساسا دافقا بالسحر والأمان، وحتى النوم عميق وسط هذه الكائنات المليئة بالحياة.. مع شعور غريب بأن احتفاظي بكتاب «الأجنحة المتكسرة» بعد كل هذه السنوات ظل يحمل معي ذلك الإحساس الطفلي بأني كنت أحد مكتشفي العالم، أو بأني العاشق الذي توهم سحر لحظات حبه مكسورا، لكنه ظل الحي الذي تغمره السعادة بوجود ذكرى من يحب. إنه كتاب للحياة، وكتاب لذاكرة ما زالت تسمح لأصوات كثيرة تبادلني يقظتها وأحلامها الدافقة.
↧