كتاب الشاعر سيف الرحبي هذا («نسور لقمان الحكيم» - دار الآداب - بيروت) كتاب إصغاء إلى الذات الكاتبة بكل ما يداخلها من رؤى مصدرها الذاكرة أو الخيال، أو ينبثق عنها من أفكار تجمع بين الواقع والتاريخ، أو يحف بها من حيوات، وتمر به من مشاهد.. الحياة شاغلها.. الحياة كما يريد لها أن تُرى وتُعاش. تشط به الأمكنة، وتتراكم أمامه (وأحيانا عليه) الأزمنة، فلا يجد أمامه من مآل سوى العودة إلى الطفولة، وإن كان الشباب، الذي يحاكيه بلغة الكهولة، هو ما يبني لغة الكتابة عنده.. وهي لغة تدخل في تأليفها أحداث بدت مدلهمة، أو هي هكذا، ووقائع منفتحة على أماكن، وأشخاص شكلوا فضاء آخر للكتابة كثيرا ما نجده يعمد إلى «أسطرته» من خلال الكتابة برؤيا الشاعر، لا برؤيته، وبلغة الأسطورة القائمة على محمولات واقعية عمادها الأمكنة وأزمنة البشر.. فإذا ما مر بمدينة، أو من أخرى تقبع عند سهل جبل، وجد في هذه وتلك «أسطورة قائمة بذاتها»، محاولا أن يستعيد «مشاهد ولقطات» من أماكن أخرى يدعوها «أماكن الذاكرة»، وإن «أضحت نائية وعصية». وهنا يندغم الشعر بالرؤيا في تكوينها هذا ليكتب قائلا: «قلتُ سأطوي الجبال/ كأرض خلاء/ وارى ما وراء الأفق/ قلتُ: سأطوي الغيوم/ كأرض خلاء/ وأرى ما وراء النجوم/ قلتُ: سأطوي السماء/ كسجادة/ وأرى ما وراء السراب». الحضور والغياب يتقاسمان حدود الكتابة في نصوص الكتاب، ويشتركان في أفقها.. والحضور الأكثر كثافة هو للحلم، والحلم بحر، والأمكنة والأزمنة تغتسل «من جفاف الوقائع في مياه موج الأحلام وتدفقها اللامحدود بقرار وسقف». وأما الغياب فهو الوجع الذي يسكن الحياة منه والكلمات، ليجد «الاحتفاء بالموت»، وقد تمسكت يده بخطوات بعض من عرف فشدتها إليه.. «صار يغطي على الاحتفاء بالحياة ولحظات أنسها الزائل».. لا لشيء إلا لأنه أنقذ الغائب «من براثن الواقع والزمن»! وإذا كانت الرؤى هي ما ينسج منها حكاياته (ومشاهداته)، فإن مرجع هذه الرؤى هو الذات الكاتبة بما استشفت من تمثيلات الواقع، أو اختزنت من ذكريات التاريخ الذي نجده يستعيده بعلوّه وانخفاضه معا، مستندا إلى رواية الراوي في ما يقول وهو يرى من الخلفاء من نخرهم الضعف والتشظي، فإذا بمدينة مثل بغداد - كما ينقل الرواية عنها مؤرخها الخطيب البغدادي - تتحول، من بعد استيلاء البويهيين على سلطانها «من حاضرة العالم، بما لهذه العبارة من معاني القوة والجمال والمعرفة والنفوذ، إلى مسرح للفتن، وتتابعت على أهلها المحن، فخُرّب عمرانها وانتقل قطانها (...) إذ تسرب سلطانها الحقيقي إلى الأعاجم الذين تولوا الكثير من أمرها، فآلت إلى ما آلت إليه من تراجع حضاري وأفول».. وكأنه ينظر إليها في حاضرها وما آلت إليه اليوم من بعد احتلالها، وانصراف شؤونها إلى أيد بويهية أخرى، ليقول: إن التاريخ يعيد نفسه.. وكما أن لكم في الحاضر مأساة مركبة، فإن لكم من الماضي عظة وعبرة. وبصورة بالغة الشعرية يرسم صورا أخرى، كصورة ذلك المحارب الذي واجه الموت ولم ينجُ منه.. فتهاوى.. وراح «الطائر يحلق فوق الأكمات والهضاب، يتبعه السرب بعيونه التي تكاد تخترق حجب الغيب، باحثة، هي الأخرى، عن عين ماء، عن غدير ترتاح في راحته وتروي ظمأ الأسفار الطويلة، متقلبة بين حرها وبردها»... و«يدور السرب دورات متعاقبة، تسقط نظرة الطائر على جثة المحارب الذي قضى عطشا في هذه المسغبة التي تعشي سرابات صخورها أعين الطير والبشر..». وكثيرا ما يُعلن عن أن الأشياء تظهر له ظهور رؤيا، كظهور «الجبل الأخضر» عُماني الوجود وهو جالس في مقهى دمشقي، ليتمثله «مجرة حنين، وأحداثا وسلالات»، محاولا «تسلقه كتابا بأدوات وجسد لم يتعوّدا تسلق مثل هذه الوعورة والغموض..». وفي إطار هذه الرؤية الشعرية التي تتجاوز التعبير وما يتخذ من أساليب، إلى الرؤية التي تأخذه إلى «معالم» الأشياء وما تتحدد به وجودا، ليجعل منها «علامات» لمواقف وأحوال، و«سفرا في الكينونة» بحثا عن «الحوار» و«التواصل»، الأفكار والرؤى سبيله إلى ذلك. ويبحث مع، ومن خلال، من يجد نفسه يعرفهم (كشيخ المعرّة) عما يدعوه بـ«الجوهر الأهم»، منهيا إلى نفسه وقارئه ما انتهى إليه من «معرفة» عبر/ ومن خلال معرفته المتكونة به. فإذا كان (المعري) قد عرف العزلة فهي العزلة التي «تسكن العاصفة، عاصفة المعرفة والكرامة». أما ما عرف من «تزاحم الأضداد» فإنه يجد في طلب المزيد منها «إيغالا في تعب الحياة لا تلبث أن ترتطم بوجه الحقيقة الوحيدة»، والذي يلوح له وجها كالحا، وإن كان سيسلمه إلى الشعر: فمن «التأمل الفكري» إلى «التأمل الشعري» إلى الليل الذي هو مدركه، والذي يجده حنونا «أحن من سلفه بكثير، ذلك أن الطفولة الغضة فيه لوحت بيدها الغضة/ من النافذة، وواصلت الرحيل». وفي إطار هذه الرؤية/ التمثّل يجمع بين صورتين: صورة الحبيبة، وصورة الطبيعة. فإذا ما لاحت له من النافذة الحبيبة بصورتها «المضيئة/ معلقة على جدران قلبي المهدم/ لكنه العامر بالجمال/ بسبب هذه الابتسامة التي ترسلها في الفضاء المكفهر/ فيستحيل مروجا وارفة..»، ليجد أن «خيال الحرية» الذي «يسكن الليل والعاصفة» هو ما يتمثل فيه/ ويمثل له «هيبة العلو والحياة». أما من خلال الطبيعة (التي تتناغم عنده على نحو فريد، وهي واسعة الحضور في نصه) فيتمثل الشيء وضده: الطائر والبوذا، النحلة الملكة وبيت التماسيح. وتتوالى الصور في هيئة مشاهد معبرة عن الشيء ونقيضه. إلى سلطة الطبيعة، هناك سلطة الذاكرة والتاريخ، ورنينها الغامض في أعماقه «يحمله المطر والحب» مرة، ويصدر عن محاولته «الإمساك بناصية الحياة والحقيقة» مرات، مرتبطة عنده بما هو تخييلي، أو متخيل، ومعها يجد «السرابات أكثر قربا من الامتلاء والحقيقة من الوقائع الفجة لحياة يومية توهم بالحياة..». وتأخذ الصورة الشعرية أبعادها التي تتوازن في صياغات تشكيلية تنتظم مؤلفة تشكيلات العالم الذي يؤلف: فـ«المرأة الجالسة على الصخرة/ يحيطها البحر من جميع الجهات/ لا تفعل شيئا غير النظر في الأفق/ وسحب تسير ببطء/ نحو الضفة الأخرى من الأرخبيل». ومن هنا فهو، إذا شئنا دقة التعيين لطبيعته كتابا «سياحة حدّةٍ في الرؤى والأفكار، الهواجس والاستيهامات».. ومعها فهو على شيء من «الشمول المعرفي والتأمل في الإنسان والطبيعة» - كما جاء في ما عبر به عن أمر آخر، إذ تعينت صورة الكتاب وطبيعته.
↧