قال مرة الرئيس بيل كلينتون إن الولايات المتحدة هي البلد الذي لا يمكن للعالم أن يستغني عنه، لقدرتها على حلحلة المشكلات العالقة وإنهاء الأزمات وتقديم العون بطريقة لا يمكن لبلد آخر أن يفعله. لكن ولي نصر، الكاتب البارز وعميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جون هوبكنز» له رأي آخر تبدو فيه أميركا أوباما في أضعف حالاتها خارجيا. في كتابه الصادر حديثا «الأمة المستغنى عنها.. السياسة الخارجية الأميركية في تراجع»، ينتقد مؤلف الكتاب الشهير «انبعاث الشيعة» بشدة قرارات الرئيس الأميركي باراك أوباما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط التي تحولت إلى خطابات بلاغية وفورات عواطف لحظية، كما حدث في مصر، أو امتناع عن لعب أي دور لإنهاء المجازر كما في سوريا. يكتب نصر: «هذا التغير غير المتوازن في السياسة يعرض أميركا بصورة الدولة غير الحاسمة وغير الموثوقة. إنها تكشف أننا لا نملك فعلا أي استراتيجية طويلة الأمد، وبعيدة الأهداف. يبدو أن هدفنا الوحيد هو الخروج سريعا أولا من أفغانستان، ومن ثم المنطقة كلها، تحت غطاء الحديث الاستراتيجي في التحول نحو آسيا». وفي مقطع آخر، يسخر نصر من تأكيد الرئيس الأميركي أوباما على ضرورة أميركا في عالم اليوم، مع أن إدارته اختارت الانسحاب. يكتب نصر بلغة متهكمة: «أميركا التي سُحبت من قبل الأوروبيين لإنهاء المجزرة في ليبيا، والتي تركت أفغانستان لمستقبلها غير الموثوق، والتي تمتنع أن تلعب دور القيادة لتنهي المجازر بحق المدنيين في سوريا، والتي تنسحب من التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط لتتجه لآسيا، من الصعب أن يُنظر لها كأمة لا غنى عنها!». نصر لديه كثير من القصص التي تؤكد على تخبط البيت الأبيض خارجيا، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. في عام 2008، ذهب ولي نصر برفقة السياسي والدبلوماسي الراحل ريتشارد هولبرك إلى نيويورك، لحضور اجتماعات الأمم المتحدة المنعقدة لمدة أسبوع. لم تكن الخطابات هي المهمة، بل الاجتماعات المغلقة التي كان يلتقي فيها هولبرك بعض القادة ووزراء الخارجية، بغية التوصل لحل سياسي يجلب الاستقرار لأفغانستان. اللقاءات كانت غير مشجعة، ولكن المحبط لوزيرة الخارجية كلينتون وهولبرك هو غياب الرؤية الاستراتيجية في البيت الأبيض، الذي استبدل بالدبلوماسية الشاقة الخطابات البلاغية. وزارة الدفاع كانت تضغط لمزيد من القوات، ولكن من دون رؤية واضحة، والمستشارون المقربون من الرئيس مهووسون بالصراع الداخلي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وأكثر ما يملأهم بالحماس هو أن تأتي العناوين المثيرة التي ستبثها المحطات الإخبارية في صالح الرئيس. في سياق التنافس بين الأجهزة الأميركية لتقديم حلول ناجعة للوضع الأفغاني، نجحت وزارة الدفاع بدفع أوباما - الذي لا يريد أن يظهر بمظهر الضعيف - للموافقة على زيادة عدد القوات وإرسال 30 ألف عنصر لتنفيذ المخطط الذي يقوم على تجفيف التعاطف مع طالبان في كثير من المناطق، ودعم زعماء القبائل بالمال والعتاد لدحرها والقضاء على الجماعات الجهادية المرتبطة بها. نجحت مثل هذه الاستراتيجية في العراق، لكن من المشكوك فيه أن تنجح في أفغانستان لأسباب متعددة، أبرزها قدرة هذه الجماعات على التخفي وتنظيم صفوفها، والعودة بشكل أقوى وأعنف من السابق. فريق وزير الخارجية يبحث عن حل طويل الأمد يتضمن التوصل لتوافق سياسي يمهد لبناء مؤسسات الدولة ويسهم بتحريك عجلة الاقتصاد بما فيه دعم القطاع الزراعي الذي سيوفر فرص عمل للكثيرين في منطقة تعتبر الزراعة فيها المصدر الأساسي للإنتاج. هولبرك كان يقول: «في بلد 8 من 9 أشخاص فيه يعتمدون على الزراعة، لن تحرز أي تقدم إلا إذا قمت بإنعاش الاقتصاد الزراعي». هولبرك كان يحاول بمشقة بالغة، وبمشاورات طويلة، إيجاد بيئة أفغانية اقتصادية سياسية وتنموية جديدة، ولكن الإدارة رضخت لمطالب القادة العسكريين الذين يعرفون كيف يضغطون ويحققون ما يريدون. لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ قام القادة العسكريون بتقديم بعض الإحصاءات المحتفلة بنجاح خطة ملاحقة طالبان والجماعات الجهادية، ولكن في الواقع لا توجد أي بوادر لانتصار محقق، لأن هذه الجماعات إذا شعرت بالضغط عليها تتلاشى، ومن ثم تعود بشكل أقوى مدعومة بالغاضبين من حكومة كابل المتهالكة المتهمة بالفساد، التي لا تملك كثيرا لتقدمه للناس. ولكن إذا كانت هذه هي الاستراتيجية الجديدة لإدارة أوباما فعليه إذن (كما يقول المؤلف) أن يلتزم بها. لكن هذا ما لم يحدث بشكل أسرع مما توقعه الجميع. قام الرئيس أوباما في منتصف عام 2011 بخطوة غير متوقعة بإعلانه عزم إدارته على سحب القوات الأميركية بحلول عام 2014. أعلن نهاية الاستراتيجية الجديدة لمحاربة المتمردين «ليس فقط في أفغانستان، ولكن كخيار استراتيجي. أميركا لم تعد بحاجة إلى مواجهة المتمردين، أو تساعد في بناء الدولة»، كما يقول الكاتب، ويضيف: «هذا ليس نهج الأمة التي لا غنى عنها، كما سماها مرة الرئيس الأميركي بيل كلينتون». في مصر أيضا قصة أخرى من قصص عدم قدرة إدارة أوباما على فهم التحولات بالشرق الأوسط والتعامل معها بواقعية. ينجح نصر بتفسير الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها الإدارة الأميركية، والتي أسهمت في تدهور الأوضاع بمصر إلى الحد الذي وصلت إليه اليوم. بعد اندلاع المظاهرات المطالبة برحيل الرئيس مبارك، أدركت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن مصر بحاجة إلى تحول سلمي يخرج فيه مبارك بعد مدة معينة، بدل الانهيار المفاجئ بالضغط عليه لكي يغادر. يقول الكاتب: «كان من الأفضل لليبراليين المصريين، أن يبقى مبارك في الحكم لمدة معينة، بدل التحول السريع والانهيار المفاجئ.. كلينتون اقترحت على الرئيس أوباما أن يرسل مبعوثا خاصا للرئيس مبارك ليقيم الموقف من هناك، ويطلب من الرئيس مبارك أن يخطط لخروج مرتب وملائم للتحول الديمقراطي». المبعوث كان الدبلوماسي فرانك وايزنر (شغل منصب السفير الأميركي في القاهرة بين عامي 1986 إلى 1991) شارك كلينتون رؤيتها في أن التحول التدريجي للديمقراطية سيكون أفضل للقوى الليبرالية المخدوعة بزخم قوتها وعنفوانها الذي تشهده في الشارع. أوباما كان على وفاق مع هذا التصور للخروج التدريجي، وحمل مبعوثه رسالة تطلب من مبارك أن يرتب خروجه. ذهب وايزنر إلى مبارك وأخبره بذلك. وهو في الطائرة العائدة لواشنطن، ذُهل وايزنر لدى معرفته أن الرئيس الأميركي غير رأيه، وطلب من مبارك «التنحي فورا!». هذا التحول السريع في الرأي (كما يؤكد المؤلف) يعكس التخبط الاستراتيجي لإدارة الرئيس أوباما، الذي طلب من مبارك الرحيل الفوري، من دون أن يعرف ماذا عليه أن يفعل بعد ذلك. يشير نصر إلى أن الولايات المتحدة كانت مصيبة في احتضانها روح التغيير، ولكن الرئيس كان مدفوعا بحماس اللحظة وبتشجيع الشباب من أعضاء إدارته. ثم يضيف هذه الجُمل التي تعكس عدم قدرة الإدارة الأميركية على استيعاب ضخامة مع ما حدث في مصر. يكتب: «الرئيس تعامل مع خطابات مبارك ومراوغاته وكأنها أخبار الحملات الانتخابية، عندما يجب أن ترد بسرعة على كل تصريح من الحملة الأخرى، حتى تجد مكانها ضمن العناوين الأساسية في الصحف. هذا النمط يعكس تأثير المستشارين في البيت الأبيض، الذين خرجوا من حملات الرئيس الانتخابية ليسيطروا على القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية. كان لديهم القليل من الخبرة في السياسة الخارجية. ما يعرفونه هو الوتيرة المتسارعة لعالم الحملات السياسية». ماذا حدث بعد ذلك؟ هل التزم أوباما بأي خطة استراتيجية بخصوص مصر تساعدها في الخروج من الفوضى السياسية والاقتصادية التي تعيشها اليوم؟ الجواب لا، كما يقول نصر. لم يحدث أي شيء من هذا غير الصمت والمشي بعيدا، كما هي عادة الرئيس عندما تسخن الأزمات. المشي بعيدا بعد إعطاء الوعود الكلامية هو أيضا ما جمد المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بسبب (مرة أخرى) غياب الرؤية الاستراتيجية. كل طلبات الرئيس أوباما الحاسمة في بداية رئاسته بالوقف الفوري للمستوطنات لم تحدث على أرض الواقع، وإنما ورطت الحكومة الفلسطينية التي تجاهلها الرئيس الأميركي بعد أن صعد معها إلى الشجرة، ومن ثم نزل وحيدا وسحب السلم، كما في التصريح الصحافي الشهير للرئيس الفلسطيني محمود عباس لصحيفة «ديلي بيست». كتاب نصر يتضمن كثيرا من المعرفة الدقيقة والبصيرة، ليس فقط لأن المؤلف خبير في منطقة الشرق الأوسط، ولكنه أيضا كان قريبا من كل هذه الأحداث التي فصّلها في كتابه؛ فقد كان مستشارا للراحل لريتشارد هولبرك حينما كان المبعوث الخاص للرئيس أوباما في أفغانستان وباكستان. في المقدمة، يشير نصر إلى أنه فكر طويلا قبل أن ينشر هذا الكتاب، لأنه لا يريد أن يستغل كأداة سياسية في لعبة الصراعات المستعرة دائما في واشنطن، ولكنه أراد أن يكشف عن الخلل الكبير في تعامل إدارة أوباما في الشرق الأوسط، الذي ستكون له تأثيرات كبيرة على المنطقة وعلى الولايات المتحدة نفسها. ولكن يؤكد المؤلف في نهاية الكتاب أن تلافي هذه الأخطاء واعتماد استراتيجية واقعية وواضحة قد يساعد على تصحيح الأوضاع، وإنقاذ المنطقة من الفوضى التي علقت بها. يبدو أن هذا هو التصرف الصائب، ولكن، وعلى خلفية أخبار المجازر الفظيعة في سوريا، وتقدم طالبان في أفغانستان، والفوضى في مصر، والتدهور في العراق، يصعب على الشخص أن يتجاهل التفكير بالمفارقة التالية: كيف للرجل الذي ملأ يوما العالم كله بالآمال الكبيرة، أن يكون هو الرجل نفسه الذي أجهز على أبسط الآمال الصغيرة؟
↧