كيف يتم التوثيق لثورة، لم تطو صفحتها بعد، ولا تزال حية وفاعلة على الأرض.. إنها إذن مغامرة، تحمل عبئها باحث التراث الشعبي هشام عبد العزيز، حيث رصد بعين المؤرخ الحصيف المخزون الروحي والجسدي لثورة 25 يناير في مصر، في حراكه اليومي المباشر وتجلياته المتباينة، في تقاطعاتها الحية ميدانيا، ومردودها على شتى المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والقانونية واللغوية، وذلك من خلال موسوعة مستفيضة، صدر جزؤها الأول عن الهيئة المصرية للكتاب. تحمل الموسوعة اسم «موسوعة ثورة يناير»، ووفقا للتقسيم الأبجدي الذي اتخذه الباحث إطارا نظريا لمنهجه، يتضمن هذا الجزء كل ما يندرج تحت حرف الألف وحتى حرف الثاء. واللافت في هذا المنهج أن المؤلف يرصد ويؤرخ لكل وقائع الثورة في إطار رؤية غير مباشرة، كأنها تتخلق بعفوية فيما وراء ظلال الوقائع والأحداث، وما تنطوي عليه من شحنات دلالية ولغوية، أغلبها وليد زمن الثورة الراهن، حتى ما تستدعيه الذاكرة من عباءة الماضي، سواء كان تعبيرا أو مصطلحا صكته المخيلة الجمعية الشعبية، فإنه يتم إزاحة محموله الدلالي الماضوي تلقائيا، ليكتسب في حراك الثورة دلالة أخرى، تمنحه نوعا من الجدة على مستويي الشكل والمضمون. وعلى مدار أكثر من 500 صفحة من القطع الكبير تكشف الموسوعة في هذا الجزء عن أنساق هذا التحول الطارئ في الوجدان المصري، وفي أنماط السلوك والعادات، وكذلك في طرق النظر للماضي والحاضر والمستقبل، ويتم هذا في سياق موضوعي محايد من الرصد والتوثيق والتقصي، يتسم بقدر كبير من العمق والشمول. فالباحث لا يتوقف عن رصد الواقعة وتوثيقها، وإنما يخلق لها مجالات رؤية مستترة في الخلفية، مما يحفز خيال القارئ، ويثير فيه شهوة التساؤل ليذهب أبعد من عملية القراءة، وهو يتلقى وقائع وأحداثا قد يكون عاشها وشارك فيها، لكن وضعها في هذا النسق من التأريخ يجعله يقرؤها بعين أخرى، وكأنها حدثت للتو. يشير المؤلف في مقدمته للموسوعة إلى هذا المنحى الجديد، متقاطعا مع «الجبرتي» كرائد لعلم التأريخ في مصر، مؤكدا على جذرية التغيير الذي أحدثته ثورة 25 يناير في الشخصية المصرية بشكل متضاد مع ما سبقها. ويبرر اعتماده على الجانب اللغوي في رصد تجليات هذه الظاهرة الثورية، لافتا إلى أن هذا الجانب شكّل، ولا يزال، محور حيوية هذه الظاهرة، كما جعل الكلام العادي للمصريين يدخل في نطاق الدلالات الاستعارية والمجازية، على عكس المدخل التاريخي الزمني الذي يعنى - في الغالب الأعم وبحسب طبيعته العملية - برصد الأحداث، بصورة آلية كما وقعت على مستوى الزمن والفعل والشخوص. ويلفت الباحث إلى تراجع أهمية هذا المدخل وجدواه في التأريخ لوقائع الثورة، في ظل حالة من التوثيق الهائلة تتضافر فيها الصورة والصوت والمتابعة المتنوعة، كما أن الثورة نفسها أصبحت ظاهرة مفتوحة على فضاء الإنترنت والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة، خاصة في مجالات المتابعة الإعلامية والرصد والتحليل الخبري. وعلى الرغم من هذا، أرى أن هذا المنحى لم يتراجع بشكل كلي، فهو يومض في طيات الموسوعة، في شكل تقاطعات وتجاورات زمنية بعينها، وفي سياق وقائع محددة ارتبطت بشخوص بعينهم. ناهيك عن أن الثورة نفسها رفعت بسلميتها على مدى 18 يوما سقف الخيال، بصورة مدهشة، أعلى من اللغة ومن الخبرة العادية للحواس. لكن ربما، ما لم يفطن إليه الباحث في عمله الدءوب المتميز، أن تركيزه على المدخل اللغوي لرصد وقائع الثورة، شكل، ضمن ما شكل، نوعا من القبض على الروح المصرية الخفية الكامنة في تضاعيف ومسارات الوقائع والأحداث، ليس فقط على مستوى عملية التحول السياسي التي يخوضها المجتمع بقوة الثورة، من عصر إلى عصر آخر، وإنما على المستوى الشخصي لإنسان هذه الثورة، سواء من النخب السياسية والثقافية أو المواطن البسيط العادي الذي وجد في الثورة ضالته في العيش بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية، وهي شعارات الثورة الأساسية. في سياق التركيز على المدخل اللغوي الذي يبدو بمثابة حجر الأساس في عملية التحول والتغيير المجتمعي، ترصد الموسوعة مجموعة من الأفكار والألفاظ التي اكتسبت شحنات دلالية وتعبيرية جديدة تحت مظلة الفعل الثوري، وبعضها اخترعه المصريون لأول مرة، وركبوه في نسيج دلالي يتوافق مع طبيعة الحدث نفسه، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا، ومنها لفظ «استبن»، وهو يعني في عرف المصريين، كل ما هو احتياطي، سواء تمثل ذلك في «إطار» السيارة، أو اللاعبين غير الأساسيين في مباريات كرة القدم. لكن اللفظ انتقل إلى مجال العلوم السياسية حينما أطلقه المصريون على رئيسهم محمد مرسي إبان الانتخابات الرئاسية، فقد كان المرشح الاحتياطي البديل للمرشح الأساسي خيرت الشاطر (مرشح الجماعة الإخوان المسلمين) وبعد أن نحي المرشح الأساسي حل مرسي ليكتسب صفة (المرشح الاستبن). ولا يتوقف الباحث على مجرد رصد اللفظ، بل يشير ضمنيا إلى أبرز ما أثاره من دلالات على مستوى الوجدان العام. وكان من أبرز ما أثاره هذا المصطلح من سخرية شعار سياسي مركب تداوله مصريون رافضون لـ«لإخوان»، والطريف أنهم ساووا فيه بين ما ثاروا ضده، وما يحدث في الواقع الراهن بعد الثورة.. ومن ثم يقول الشعار: «ضد مبارك أب وابن.. ضد الشاطر والاستبن». يترافق مع هذا كثير من الألفاظ الأخرى الطريفة تجمعها الموسوعة في سلتها، ومنها: «ترامادول»، «التسويد»، «تقبيل الأيدي»، «التنفس تحت الماء»، «بالونة مرسي»، «بص في ورقتك»، «بعدين»، «الأكاذيب التسعة»، «أكشاك الثورة»، «امسك فلول»، «ثورة معهاش بطاقة»، «توك توك مبارك». وبالتجاور والتقاطع مع مصطلحات قارة وثابتة وأخرى مستجدة تداولتها الثورة في مدها وجذرها السياسي والاجتماعي، من قبيل «التعديلات الدستورية»، «تسليم السلطة»، «تنصيب الرئيس»، «الثورة المضادة»، «ثورة الغضب»، «أهلي وعشيرتي».. وغيرها. مما يجعلنا أمام بانوارما حية لفضاء ثورة 25 يناير، وإضافة حقيقية لعلم التأريخ كخبرة بشرية، يؤشر لها بحيوية هذا الجزء الأول، الذي أرجو أن يكتمل عقده بصدور بقية أجزاء الموسوعة.
↧