بدأت القراءة بفضل توفير وزارة الثقافة المصرية في مطلع الستينات سلسلة من القصص المترجمة عن أصولها الإنجليزية و(أحيانا) الفرنسية تحت عنوان «سلسلة عالمية». ضمن هذه السلسلة تمت ترجمة بعض أمهات الروايات الشعبية. قرأت روايات أوروبية كلاسيكية مثل «حول العالم في ثمانين يوما» و«جزيرة د. مورو» و«مغامرات المونتي كريستو» و«البائسون» جنبا إلى جنب الروايات البوليسية مثل «الذئب الوحيد» و«الرجل النحيف» و«عشرة عبيد صغار» و«الصقر المالطي». كان ثمنها، تبعا لسياسة قوامها نشر الثقافة أيا كان مصدرها وتشجيع الجميع على القراءة (كانت هناك أيضا سلسلة «الألف كتاب» التي أقبلت عليها في مرحلة لاحقة قريبة والتي كانت أكثر جدية) رخيصا مما جعلني أعتاد المرور على مكتبة ليست بعيدة عن البيت لشراء كتاب مباشرة قبل التوجه إلى المدرسة. ثم كان أن أخذ صديق لوالدي اسمه شعبان يعمل في دار نشر في بيروت تطلق سلاسل أخرى فإذا بي أتعرّف على «بردليان» (وهكذا كان يُسمى من رواية إلى أخرى) وطارزان كما أرسين لوبين (أو أرسان لوبا كما تهجئته الفرنسية). ثم، سلسلة رابعة حول تحر فرنسي اسمه جونسون وأذكر عنوانا لافتا واحدا من كتبه وهو «السماء تمطر دما» وفي الكتاب أن المجرمين قتلوا ضحية ثم أطلقوها بالمنجنيق فوق البشر المحتشدين لمراقبة استعراض وطني فإذا بالبعض منهم يتلقف رذاذا من ذلك الدم المتطاير. لا ريب عندي اليوم أن عددا من كل هذه الروايات كان يُكتب ولا يترجم وذلك بسبب رواجه وانتهاء المؤلفات ذاتها، لكن لم لا؟ طالبا أن المسألة كلها كانت جنة من الخيال: خيال الكاتب مع خيال الحكاية يلتقيان وخيال القارئ الذي يريد أن يسبح - حتى في ذلك الحين - بعيدا عن الواقع. كان والدي مصدر إلهامي. هو الذي صحبني إلى السينما منذ سنواتي الخمس الأولى، وهو الذي لم يتذمّر يوما من إقبالي على القراءة خارج كتب المدرسة. كان يعود إلى البيت قبل عودتي من المدرسة وكان يفاجئني. ذات مرّة عدت فوجدته جالسا يقرأ كتابا من سلسلة «طارزان». كان قصد أن يلفت نظري ففرحت كثيرا وبدأت أخلع عني حقيبتي قبل أن أنظر من جديد، فإذا به أخفى الكتاب الأول وأخرج كتابا ثانيا. قفزت من فرحي.. كتابان.. ركضت إلى الحمام أغسل وجهي ويدي (عادة ما زلت أقوم بها إلى اليوم) وعدت لأفاجأ به وقد حمل كتابا ثالثا.. كان فرحا لفرحي طوال الوقت. كل ذلك وأنا دون الرابعة عشرة من العمر. أذكر مرّة أنني نزلت إلى مكتبة تبيع كتبا إنجليزية قديمة. وأخذت أبحث بينها عما أشتريه فوجدت واحدا من نوع روايات «الوسترن» الأميركي. سحبته من مكانه وتوجهت به إلى صندوق الدفع. بادرني الواقف عنده: «.. وهل تعرف كيف تقرأه؟» فتدخل موظف آخر كان جالسا وراءه: «أنت لا تعلم.. هؤلاء الناس يرسلونهم إلى مدارس خاصّة لتعليمهم». ضحكت في سري، فأسرتي فقيرة لكن ثيابي المكوية وهيئتي النظيفة أوهمت أحدا أنني أستطيع القراءة بالإنجليزية من دون قاموس. ما زلت أحتفظ بهذا الكتاب إلى اليوم وعنوانه «الأرض المنهوبة» The Plundered Land. قرأته في حياتي مرّتين من باب إعجابي بأفلام الوسترن الأميركية مرّة، ولكي أعود إلى الأمس الجميل مرّة أخرى (قبل خمس سنوات). هنا كان التمهيد للقراءات المختلفة التي أقوم بها، وبصمت. لم أحاول أن أتباهى بما أقرأه لأن القراءة مثل العبادة وبضعة أمور أخرى عليها أن تكون خاصة. لكني لم أترك لليوم عادة البحث عن روايات شعبية ينكرها أهل الثقافة عندنا مترفعين.
↧